فضيلة الفطنة
الفضائل الادبية
فضيلة الفطنة
+المطران ازاد شابا
تقديم
الفضائل جمع فضيلة، وهي استعداد عادي وثابت لفعل الخير. والشخص الفاضل هو الذي يمارس الخير بحرية. والفضائل تتيح لكل انسان ان ينظم حياته، فيميز المواقف الايجابية من السلبية، لا بل يميز الافضل من السيء، لا الشر من الخير وحسب، والحق الاصيل من المزيف والسطحي، رغم انه ليس امرا سهلا. الى جانب الفضائل الالهية teologal: الايمان والرجاء والمحبة، وهي عطايا الله بالنعمة، اي انها متعلقة بالله مباشرة، هناك الفضائل الادبية التي بها نسلك السلوك القويم في علاقاتنا مع الناس وفي مهام حياتنا، وهي اربع: الفطنة، العدالة، القوة، القناعة ولها دور محوري وتسمى رئيسة cardinal من اللاتينيةcardo اي ان كل الفضائل الأخرى تعتمد عليها.
هذه الفضائل الاربع والتي يمكن للانسان ان يكتسبها، دخلت مع افكار الرواقيين كفضائل رئيسة في التعليم المسيحي. حيث نجد لدى اباء الكنيسة: اوغسطينوس، امبروسيوس وغريغوريوس الكبير، تفسير هذه الفضائل على انها اوجه متنوعة من محبة الله. ومن بعدهم توما الاكويني الذي يعرض اخلاقياته اذ هي اخلاقيات الفضائل.
ما هي الفطنة؟
اولى هذه الفضائل وارفعها، الفطنة، بل هي فضيلة الفضائل لانها تقوم في القدرة على السلوك بحسب العقل. لها يعود الحكم الصائب في المسائل الاخلاقية. وهي حسب أوغسطينوس وتوما الاكويني، المحبة التي تستطيع ان تميز تمييزا حسنا بين ما يساعدنا في سعينا الى الله وما يعيقنا عن ذلك.
الفطنة لا تعني الحذر ولا الخوف، ولا حتى التردد مثل حكاية حمار بوريدان الذي مات من الجوع والعطش لانه لم يقرر ما اذا كان الافضل اولا تناول الشوفان او شرب الماء. الفطنة تقودنا الى معرفة ما يجب القيام به، وتجنب المخاطر، وتجاوز العقبات، وتقييم عواقب افعالنا واتخاذ القرارات المناسبة. لذلك قبل اتخاذ قرارات مهمة لابد من التوقف والتفكير، واذا لزم الامر طلب المشورة من اجل الحصول على المزيد من عناصر الحكم. يقول يوحنا بولس الثاني: حكيم من يبني حياته وفقا لما يمليه عليه ضميره الصحيح. عليه، فان الذي يسلك بعد الحصول على المعلومات وبعد التفكير لديه فرصة اكبر للتوقع، وان اخطأ فسيعرف بسهولة اكتشاف خطئه في الحال.
ماذا يقول الكتاب المقدس عن الفطنة؟
ان اختزال الفطنة بالحذر في الواقع، لا يبدو دقيقا في عالم اليوم. فالحذر بالنسبة لنا يعني توخي الانتباه عند قيادة السيارة، ومراعاة قواعد المرور، والحرص على عدم الأكل والشرب كثيرًا، وما إلى ذلك. في التقليد اليوناني وآلابائي وفي التقليد الكتابي، حيث تنعكس بأسماء أخرى، فإن الفطنة تعني أكثر من ذلك بكثير. فالفطنة غالبا ما يسميها الكتاب المقدس الحكمة.
نقرأ، على سبيل المثال، في سفر الحكمة: “فعرفت كل ما خفي وكل ما ظهر لان مهندسة كل شيء علمتني، وهي الحكمة” (7، 21). وفي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، يقول بولس: “ومع ذلك فإننا على حكمة نتكلم بين المؤمنين الراشدين، وليست بحكمة هذه الدنيا ولا بحكمة رؤساء هذه الدنيا، ومصيرهم للزوال” (2، 6). اما يعقوب فيكتب: “وإن كان أحد منكم تنقصه الحكمة فليطلبها عند الله يعطها، لانه يعطي جميع الناس بلا حساب ولا عتاب” (يع 1: 5).
فالفطنة تعادل الحكمة، اي معرفة كيفية فهم الأحداث والاختيارات البشرية التي يجب أن نتخذها، في ضوء الرب.
والفطنة تعني أيضًا التمييز، والقدرة على التمييز، بين الأفعال التي يجب التخطيط لها، وما الذي يقودنا إلى الله وما الذي يبعدنا عنه، وما هو وفقًا لروح يسوع وما هو ضد ذلك الروح. “واما الإنسان الروحي، فيحكم في كل شيء..” (1 كور 2، 15). إن التمييز الخاص بأولئك الذين لديهم روح حكمة الله يميز في سلوكهم أولئك الذين يستجيبون للإنجيل من أولئك البعيدين عنه.
علاوة على ذلك، فإن الفطنة تعني الشعور بالمسؤولية، أي التصرف مع مراعاة عواقب ألافعال.
أخيرًا، فإن الفطنة تعبر في التقليد التوراتي- الآبائي، عن مفهوم آخر سيتبناه القديس توما: القرار بواقعية وموضوعية، وعدم التردد، وعدم الخوف من التجرؤ. إنه يختلف تمامًا عن مفهومنا عن الفطنة الذي يدعونا إلى التردد والحذر!
اذا، الفطنة في الكتاب المقدس والتقليد هي الحكمة التي تتأمل الأحداث البشرية في نور الله، هي تمييز ما يؤدي إلى الله وما هو يبعد عنه، وهي الشعور بالمسؤولية في تحمل الاثار المترتبة على ألافعال، وهي القدرة على اتخاذ القرار بشكل معقول وشجاع دون خوف من أي عواقب سلبية. في الحقيقة، فان الحكمة مرتبطة بالثبات والشجاعة.
لذلك يمكننا أيضًا أن نطلق على الحكمة مصطلحًا مألوفًا في رحلتنا الرعوية وهو اليقظة، حالة يقظة للعقل الذي يقرر بحكمة وموضوعية وشجاعة، الإجراءات التي يجب اتخاذها لخدمة الله وعيش الإنجيل.
ثمة أمثلة عن الفطنة في الكتاب المقدس، وأمثلة عن الحكمة والتمييز. على سبيل المثال لا الحصر، صورة بطرس في الفصلين 10-11 من أعمال الرسل. حيث يمارس فضيلة الفطنة والتمييز من خلال الاستماع إلى الروح القدس الذي يلهمه من خلال رؤية، وملاحظة تطابق بعض الحقائق البشرية وتذكر بعض الأحداث من حياة يسوع، هكذا يمكننا أيضًا أن نتعلم كيف نعيش فضيلة الفطنة.
ماذا يقول تعليم الكنيسة عن هذه الفضيلة؟
يعرف التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الفطنة بانها حوذية الفضائل، لأنها توجه الفضائل الأخرى مبينة لها القاعدة والقياس. الفطنة هي المقياس الحكيم للعمل الذي يجب على الرجل الفطن الامتثال له من أجل تمييز الخير من الشر وتكييف سلوكه للابتعاد عن الخطأ. ولو شئنا تعريف الفطنة بمصطلح حديث يمكننا ان نطلق عليها مصطلح ال GPS (نظام الملاحة عبر الاقمار الاصطناعية) الذي يرشدنا الى الطريق الذي يجب علينا ان نسلكه للوصول الى الهدف.
من أين تأتي الفطنة؟
إن فضيلة الفطنة تنبع من الروح القدس: “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء (الحكماء حسب العالم) و كشفتها للصغار” (متى 11، 25). الروح هو الذي يكشف لنا الفطنة المسيحية.
فضيلة الفطنة تأتي أيضًا من ممارسة التمييز، من ممارستنا للحكم بشكل موضوعي وفقًا لله، على سبيل المثال، فنحن اليوم محاطون بوسائل الإعلام المختلفة، والفطنة بالتحديد هي الغريزة التي ترشدنا إلى تشغيل التلفزيون او ايقافه، المشاهدة أو عدم المشاهدة، القراءة أو إهمال القراءة. لذلك فهي تساعدنا على اتخاذ القرار حتى لا تخنقنا وسائل الإعلام او نكون فريسة لها. علاوة على ذلك، فإن الفطنة تعلمنا ألا نقبل كل شيء، بل ان نتفحص الأخبار، ونستوضح الامور والمصادر، وننتظر التأكيدات. باختصار، إنها ترشدنا إلى الحكم الصحيح.
أخيرًا، فإن الفطنة التي يمنحها لنا الروح القدس وممارسة التمييز تأتي أيضًا من التعود على الصمت والهدوء وتجنب التسرع في الأحكام والأفعال. فنحن في كثير من الأحيان، وخاصة خلال حديثنا نكون غير فطنين، وغير حريصين اومحترسين -وهذه عكس الحكمة تمامًا- لأننا لا نسبق الكلمات بلحظة صمت، وتوقف، وتفكير.
ما فائدة الفطنة المسيحية؟
مما سبق، ندرك بالفعل ما هي الفائدة او الثمار التي تتاتى من الفطنة المسيحية. من يحيا هذه الفضيلة، ومن هو فطن-حكيم بالمعنى الإنجيلي، يكون دائمًا في سلام مع نفسه، ومصالح مع الواقع، وغير مخادع، بل لا يخيب أمله أبدًا، لأنه يعرف كيف يقيم كل شيء بواقعية وموضوعية، ويعرف كيف يتوقع ويفكر قبل ان يقدم على اي تصرف. لذلك فإن الفطنة تثمر حكمة الحياة، والوئام، وهدوء العقل والصفاء والنظام والوضوح والسلام الداخلي وتمكننا من النظر إلى ما هو اساسي.
الانسان الفطن-الحكيم هو الذي لا يقف ساكنا بلا حراك ولا يفعل شيئا، بل هو الذي يعمل ويبني ويبتكر ويفكر ويعرف ويساهم في تحقيق الملكوت. الانسان الفطن-الحكيم هو الذي يعرف كيف ينتظر، ولكن بنشاط، ليعيد اشعال شعلة ايمانه بالاعمال الصالحة.
في حياة المسيحي، تتطلب الحكمة أحيانًا المجازفة والمشاركة في القضايا العادلة. السامري الصالح في مثل الإنجيل (عقد او صعب حياته) لأنه تصرف بحكمة: رأى رجلاً جريحًا على جانب الطريق، فأخذه إلى منزل ودفع تكاليف إقامته للعلاج. لذلك، فإن التحلي بالحكمة لا يعني البقاء على هامش المسؤولية تجاه من هم في أمس الحاجة إليها، معتقدين أن شخصًا آخر سيهتم بهم.
في سياق الصلاة، من الأفضل أن نخمن مشيئة الله لنا. الصلاة هي مظهر من مظاهر الحكمة. في الصلاة نجد معنى حياتنا والإجراءات الممكنة لصالح من حولنا.
المصادر
– التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، المكتبة البولسية، جونيه 1999.
– المسيحية في اخلاقياتها، ترجمة كيرلس سليم بسترس، المكتبة البولسية، جونيه 1999.
– ازاد شابا، الفضائل المسيحية، مجلة نجم المشرق، مطبعة الديوان، بغداد، السنة 17 (العدد 68) 2011.
– Carlo Maria Martini, Le Virtù, Milano 2010.