مريم في الانجيل وقائع وكلمات ترسم صورتها الحلقة الثانية
مريم في الانجيل – الحلقة الثانية
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
3.الميلاد: (“كانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها” (لوقا 2/ 19)
عادت مريم الى بيتها في الناصرة، بعد ثلاثة أشهر من خدمتها في بيت أليصابات (في طول كرم). وكانت علامات الحمل بادية عليها. في هذه الفترة ورد أمرٌ من اوغسطس القيصر الروماني يقتضي اكتتاب جميع سكان مملكته، مما أربك مريم ويوسف لإضطرارهما للسير الى بيت لحم (140 كم)، موطنهما الأصلي والتسجيل هناك. تصل مريم الى بيت لحم ولم تجد مكاناً للإقامة لأن كل الابواب مغلقة… فتتوجه الى كهف قريب حيث تضع ابنها البكر (لوقا 2/ 7)، تماماً مثل المهجَّرين اللاجئين في زماننا!
النسب: إنه من قبيلة يهوذا، سلالة داود الملك. يقول الانجيل: “نَسَبُ يَسوعَ المسيح اِبنِ داودَ ابنِ إِبْراهيم… ويَعْقوب ولَدَ يوسُف زَوجَ مَريمَ الَّتي وُلِدَ مِنها يسوع وهو الَّذي يُقالُ له المسيح.” (متى 1/ 1، 16). وبحسب تقليد كنيسة المشرق مريم ايضاً من بيت داود
بيت لحم وتعني بيت الخبز (يسوع خبز الحياة!) هي بلدة داود الملك. ورغم مظاهر الفقر كل الاشياء موجَّهةٌ “لتتويج المسيح فيها”. هكذا ينبغي فهم الحدث، فأصله ملوكي (ميخا 5/ 13)، وروعة ترتيلة أجواق الملائكة في صمت ليلة الميلاد: “المجدُ لله في العلى”، وزيارة الرعاة، وقدوم المجوس للسجود له، وتقديم الهدايا، كلها علامات تعبّر عن عظمة أصله وسموّ رسالته. لا يوجد كائن على الارض احتل المكانة التي احتلّها المسيح، إلا أنه أعلن: “أن مملكتي ليست من هذا العالم.” (يوحنا 18/ 36)، انه مَلكٌ من نوع آخر
جعلتْ مريم العذراء كل هذه الامور التي رأتها وسمعتها مواضيع تفكير عميق وصلاة وشكران، وتركت الله يقودها ويحميها، ويبرئها من “لسان الناس”!
يوجز الانجيلي لوقا موقف مريم بهذه العبارة المؤثّرة التي تعبّر عن ايمانها وثقتها: “وكانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها (2/ 19). مريم تعود الى قراءة الاحداث قراءة معمَّقة وبوعي وانتباه.
التأمل يقتضي الصمت (السكينة) الداخلي والخارجي الذي يسميه الروحاني إيفاغريوس البنطي (+ 399) “مقام الله”. الصمت صلاة من دون كلام، يساعد مريم على اعداد قلبها ليغدوَ هيكلا لله صافياً ونقياً. وكما قال يسوع عندما يكون الله حاضراً فيَّ أكون انا في الله (يوحنا 14/10 )). تختبر مريم هذا الحضور الالهي المُطمئن، وتتذوقه أكثر فأكثر من خلال علاقتها بابنها بحيث يكشف وجهُه وجهَها الحقيقي المتوازن والمتناغم.
تعلمنا مريم كيف نطيع الله، ونقدم له ذواتنا تقدمة كاملة غير مجزأة، ونعمل مشيئته.
ميلاد المسيح بالرغم من المظاهر المتواضعة، حادث كوني (قيصر المملكة الرومانية، نسبه الى داود، ترتيلة الملائكة، الرعاة والمجوس) واحتفال عظيم يجب اكتشافه مع مريم.
4. تقدمة يسوع الى الهيكل نبؤات صادمة (لوقا 2/ 22 – 40)
في الختان سمّي الطفل يسوع “، ولاسمه مغزى كبير ” الله يخلص.”
بعد اربعين يومٍ من ميلاد يسوع صعد يوسف ومريم الى هيكل اورشليم لتقديم الطفل للرب تطبيقاً للوصية: “أَنَّ كُلَّ بِكرٍ ذَكَرٍ يُنذَرُ لِلرَّبّ” (لوقا 2/ 23). كلّ مولود هو عطية من الله. عليهما ان يعيدا “العطية” لمن وهبها. كم جميلة هذه الطاعة التلقائية النابعة من الداخل، فيها يجد المرء الحرية الحقيقية. مريم ويوسف يعيشان على الإيمان أكثر منه على شيء آخر، وهذا ما يمنحهما السلام والصفاء والطمأنينة.
م من الأشخاص لا يفهمون أن وصايا الله ليست تحديداً للحرية، بل تؤمّن لهم حسن استخدامها، كما إختبرها مريم ويوسف.
في الطريق الى الهيكل لا احد يعرفهم ولا يعرف هوية الطفل، انما يترك الوالدان الروح القدس يقودهما. مريم ويوسف عائلة فقيرة لا تتمكن من تقديم أضاحي غالية الثمن (خروف أو عِجل)، فقدَّما فرخَي حمام.
وهنا أيضاً يحدث ما لم يكن في الحسبان. شيخ جليل اسمه سمعان، بالهام من الله يقول كلاماً عجيباً عن الطفل الذي بين ذراعي مريم امه، فيجعلها تندهش. قال: “الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، وَفْقاً لِقَوْلِكَ فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها، نُوراً يَتَجَلَّى لِلوَثَنِيِّين ومَجداً لِشَعْبِكَ إِسرائيل” (لوقا 2/ 29- 32). يا الله ما هذا الكلام؟ مريم لا تردّ ولا تعلّق، انما تصغي بهدوء، وتُعدّ قلبها لرسالة ابنها لانه فعلاً “المخلّص” وسبب بركة للعالم. يستدرك سمعان في مخاطبة مريم: “وأنت سيجوز سيف في قلبك” (لوقا 2/ 35) شهادة صادمة ومؤلمة وسط هذا الاحتفال المفرح. هذه اشارة واضحة لتعذيب المسيح وموته التي هي بمثابة سيف يحرق قلبها الوالدي ويشعل مشاعرها. وشهادة حنة النبية التي “حَضَرَت في تِلكَ السَّاعَة، وأَخَذَت تَحمَدُ الله، وتُحَدِّثُ بِأَمرِ الطِّفلِ كُلَّ مَن كانَ يَنتَظِرُ افتِداءَ أُورَشَليم (لوقا 2/ 38). هذه الشهادات الايمانية المهمة للغاية، تقوّي ايمان مريم أكثر فأكثر وتعزز استعدادها لتحمُّل المسؤولية الى الاخير، والإسهام في “تكوين” ابنها لهذه المهمة التي أرادها الله له. هذه هي نقطة ارتكازها الثابت. انها مثال انفتاح على الخلاص الذي يقدمه الله لنا بالمسيح.
ويختم لوقا أنهم عادوا الى الناصرة وكان يسوع: “ينمو بالقامة والحكمة” (2/ 40)