مريم في الانجيل وقائع وكلمات ترسم صورتها
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
لدى قراءتنا للإنجيل ينبغي ان نذهب الى العمق، لكي نميز بين الحدث التاريخي من النص الرمزي والأسلوب الادبي، ونفهم الوقائع والأفكار في اطارها الشامل حتى ينجلي لنا معناها بوضوح ويكون لنا قوة حقيقية في مسيرتنا الايمانية.
يقدم الإنجيل العديد من الوقائع والأفكار عن علاقة مريم بالله، وعن إيمانها الذي بمقدور كل مسيحي أن يعيشه لأنها انسانة مرتبطة بانسانيتنا. عاشت مريم هذه العلاقة بالكامل تحت أنظار الله كليِّ القدرة، وعندما نقرأ هذه النصوص، انما لتترك اثرا في انفسنا.
1.البشارة (لوقا1/ 26- 38)
يكتب الانجيلي لوقا عمّا تيقن منه، وان ما ينقله هو شهادة مؤكدة: ” كما نقلها الينا الذين كانوا منذ البدء شهود عيان للكلمة” (1/ 2). ويود إيصال هذه الشهادة –الخبرة الى ” ثاوفيلس”، أي الشخص المحبوب من الله، ومن خلاله الى كلِّ محبوبٍ من الله حتى يختبرها بدوره، فيغدوَ ايمانُه قبولاً شخصياً واعيًا يزدادتقدما، وليس مجرد موروث شكليٍّ جامد ، وهذا امرٌ في غاية الاهمية.
أود ان ابدأ بنص البشارة رائع الجمال لفهم ايمان مريم، ودورها في هذا الحدث المفصلي جداً في اللاهوت المسيحي
في البشارة، يخترق الله حياة ميريام/ مريم البسيطة، وذات القلب المستقيم، من خلال الملاك جبرائيل، الذي يُحيِّيها بطريقة مقصودة: ” افرحي ايتها الممتلئة نعمة، الرب معك ” (لوقا 1/ 28). كلام خاص بلا رتوش، يُدهش مريم ويقلب الموازين، ويحول حياتها.
تضطرب مريم من هذه الكلمات المهيبة التي تجعلها في حالة استنفار، وراحت تستفسر عن معناها. اضطرابها لا ينبع عن خوفها، ولا يُعكِّر صفو قلبها، بل يعبر عن شعورها بانها لا تستحق هذه الحظوة العظيمة.
يجيب الملاك: “لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله. فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع. سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود”( لوقا 1/ 30-31 ))
موقف يقطع النفس، يدفع مريم لتسأل عما يريده الله منها، ولكي تفهم سرّ هذه الامومة ومعناها. الله يريدها ان تبقى عذراء وان تصبح يشرح الملاك: ” الروح القدس يحل عليك ”( لوقا1/15 )
اما ما هي العلامة؟ ” نسيبتك اليصابات حبلى هي الاخرى وهذا الشهر هو السادس ليس عند الله امر عسير”( لوقا/1 36-37). ماذا اكثر من هذا اليقين؟ فالله يوَّمِن لها الحماية ويغمرها بنعمه.
امام هذا الشرح فهمت مريم البشارة وكفَّت عن طرح الاسئلة؟ فالطفل الذي تحمله قدوس، وله مهمة، والرجاء قيد التحقيق، ويجب تصديق كلمة الله. “ها انذا آمة للرب فليكن لي قولك”( لوقا/1- 38). انها تثق بالله و تسلمه ذاتها بالمطلق. انتهت المهمة وانصرف الملاك .
مريم مؤمنة عملاقة، لذلك تحتل مكانة مرموقة في حياة المسيحيين . فهي لهم رمز الطاعة والامانة والولاء. هذا الاستعداد ينبع من داخلها.
علينا ان نفهم ما الذي يحدث؟ وما هو الدور الذي يلعبه الإيمان في هذه الحالة؟ وكيف يمكن أن يساعدنا هذا الإيمان عندما تكون هناك أخبار مثيرة؟ وكيف يمكن ان نتقاسمه مع الاخرين؟ في كل الاحوال يجب الا يغيب عن بالنا ان كل شيء موجه نحو المسيح ، لانه صورة الله غير المنظورة( كولوسي 1/15 )
2.الزيارة لاليصابت ( لوقا 1/ 39- 45) واعلان سر التجسد
بعد البشارة، لم يتغير شيء في وضع مريم المادي، بقي كل شيء على حاله متواضعاً، لكنها تلقت خبراً خارق العادة، ولم يكن باستطاعتها الاخبار عنه، لان لا احد يصدق ما تقوله. مريم ليست خائفة وبقيت على صفوها وسلامها لانها وثقت بالله. لذا قررت الذهاب مسرعة إلى بيت نسيبتها اليصابات وهي حامل بيوحنا لتخدمها، ولكي تجسد وجه الله الجودة والمحبة. انها بهذا تعلمنا ان نحب اخوتنا بالفعل وليس بالقول.
اي ايمان وأية شجاعة ، إنه أمر مثير للإعجاب: مريم تحييها” شلاما، السلام عليك”. تشعر إليصابات على الفور بان نوراً الهياً اخترق احشاءَها، مما جعل الجنين يقفز فرحًا في الرحم، فتخرُّ ساجدة وتصيح: “من اين لي ان تأتي أم ربي الي؟ مباركة أنت لأنك آمنت”. مريم تحس بحضور الله في كلمات اليصابات. انها مشدوهة فراحت تنشد كلمات مدهشة ” تعظم نفسي الرب“، انه نشيد الخلاص وقد استعمل في الليتورجيا المسيحية..
اني سعيدة ليس لان بيتي تغير، انما لاني سعيدة بالهي مخلصي الذي غمرني بمحبته. لقد الله نظر الى تواضع خادمته. انه يقف الى جانب المتواضعين والفقراء. يا لها من أخبار معزية. اني متيقنة ان الأقوياء والمتعجرفين عاجلاً أم آجلاً سيسقطون من عروشهم الكاذبة ، لأن نظر الله لا يستقر عليهم. يا له من إيمان ، كيف عبّرت مريم عن هذا اليقين. لقد رأت، بنور الإيمان وعلى وقع كلمات المزمور 37، ان أفعال الملك هيرودس، والقيصر أغسطس لا تتطابق مع ارادة الله.
على الأشْرارِ لا تَستَشِطْ ومِن فَعَلَةِ السّوءِ لا تَغَرْ
فإِنَّهم كالعُشبِ سُرْعانَ ما يَذْوون وكأخضَرِ الكَلإِ يَذْبلون.
ج- فَوَضْ إِلى الرَّبَ طَريقَكَ وتَوَكَّلْ علَيه، وهو يُدَبّرُ أَمرَكَ
6 يُظهِر ُكالنُّورِ بِرَّكَ وكالظَّهيرة حَقَّكَ.
لذلك يجب أن يبقى المؤمن بالله قويّاً لا يستسلم امام العواصف العاتية، لانها عابرة، وكما انقادت مريم الى صوت الروح القدس، ودخلت في حلقة تسبيح الله، هكذا ينبغي ان ينقاد المؤمن الى ارشادات الروح القدس وينضم الى رفع الحمد لله والشكر على نعمه