أيُّهما أهمْ: الدين أم الأنسان؟
القس بـول ربــان
أهلا وسهلا بالسائل الكريم
قرأ أخٌ كريم مقالة بهذا العنوان وسألني رأيي فأبديته في الموقع المطلوب، وأنشره هنا لقرائي الأعزاء زيادةً في المنفعة.
الدين أم الأنسان
تساءَلَ أخٌ عزيز حول أيِّهما أهَّم: الدين أم الأنسان؟ وختم مقالَه بالسؤال: “هل خَلقَ اللهُ البشر لخدمةِ الأديان؟ أم بعثَ الأديانَ والشرائع لخدمةِ الأنسان؟ سؤالٌ وجيه، وجوابُه بسيط جدًّا. ولا يختلفُ عليه إثنان. أو لا يجوز الأختلافُ عليه لا منطقيًا ولا إيمانيًا. الأنسان هو الكائن. أما الدين فهو لتنظيم سلوك الأنسان بالعلاقة مع الخالق أولا، وثانيًا مع بقية الخلائق. إذا لم يوجد الأنسان لا مُبَّررَ للدين. لأنه من يتمسَّك بالدين إذا لم يوجد أصلاً؟ والدين لمْ يأتِ إلا ليُرشدَ الأنسان الى الآداب الصحيحة التي تضمن راحة الأنسان، وكلِّ إنسان.
عندما يصنع المهندسُ آلةً ما يحَدِّدُ هدَفَها ويضعُ لها طريقة العمل حتى تحَّققَ المطلوبَ منها. وإذا عطلت يُصلحُها ويسنُد فعلَها بإضافةِ ما يُعَّوضُ عن الخلل الحاصل فيها. هكذا عندما خلق اللهُ الأنسان بيَّنَ هدَفَه وأرشَدَه الى كيفية تحقيق ذلك. ولما غَيَّرَ الأنسانُ طريقته خسرَ فتعَّطلت علاقته مع الله. عندئذ أضافَ الله فنظَّم للأنسان، شيئًا فشيئًا، ما يُساعِدُه في الحفاظِ على غلاقة جيدة به ليعيش براحةٍ وهناء للأبد. وهذا ما دعاه الأنسانُ” دينًا “، ودعا الأنسانَ المتَقَّيِدْ به “مُتـدَّيِـنًا”. فالأنسان أولا وأهم من الدين الذي وُجِدَ لأجلِه.
تحَدَّثَ صاحب المقال عن “الأديان”، وأنَّها مَبعوثة من “الله”. نحن نؤمن أنه لا يوجد سوى إلَهٍ واحد. والأنسان نوعٌ واحد من نسل الأنسان الأول. لا يوجد نسلان أو أنسالٌ تتسلسلُ من غير آدم. فإذن لا تغَيَّرَ اللهُ ولا تغَيَّرَ الأنسان. وبالنتيجة لا يوجد إلا “دينٌ واحد” يُنَّظمُ العلاقة بين الأنسان والله وبقية الكائنات. وهذا التنظيم يستندُ الى الأسباب الألهية في خلقِ الأنسان والى المنفعة البشرية التي يجب أن يُحَقِّقَها الأنسان لنفسِه وللخليقةِ جمعاء. وعليه لا يوجد في الله وللأنسان سوى “دين واحد” أي شريعة واحدة تنبع من حُبِّ الله، وتهدفُ راحةَ الأنسان وسعادته.
أما وجود أديان عديدة ومختلفة فلا يُغَّيرُ شيئًا في الله، ولا اللهُ ” مُرسلُها”. إنها من تكوين البشر. الله هو حب وعطاء، هو خير وجودة، وعدالة ووفاء، ورحمة وغفران. هو مصدرُ الحياة في أي شخصٍ كانت، وهو وحدَه يُحاسبُ الناسَ عليها، وهو وحده يُثَّبتُ الحَّقَ من الباطل، والجيّدَ من السَّيئ. ولا يمكن أن يُخالفَ نفسَه بإعطاءِ “دياناتٍ وتعليمات” متضاربة أو متعارضة. وليسَ كُلَّ من إدَّعى أنه من الله فهو صحيح. بل من يُعلنُ اللهُ رضاهُ عنه ويقبلُه كمُتَّدينٍ حقيقي.
أما بخصوص بعض الأفراد أو الأمكنة أو الأشياء التي يُقَّدِسُها الناس الى حَّدِ “عبادتها” كما إدعى الأخ فهذا ليس لا من محتوى الدين ولا من قواعِده الأساسية. يوجد أناسٌ قديسون بسلوكهم ونحن ندعوهم كذلك، لكن الدين أو الأيمان لا يُعلنُهم قديسين إلا إذا أجرى اللهُ بواسطتهم معجزة، أي عملا يستحيلُ على الأنسان القيامُ به، أو إجرائه بالشكل الذي حدثَ فيه، إذ يفوقُ القوى العلمية والمادية التي بحوزة الأنسان. وإكرامُ أمثال هؤلاء جَيَّدٌ، إنْ لم أقلْ واجب. لأنَّ من أكرَمه الله فأجرى لخاطِرِه معجزة لن يكون إلا مُكَّرَمًا من البشر أيضًا. لأنَّ إكرام الله للقديسين طريقة يقول فيها الله للناس “أنا أرتاح لسلوك مثل هذا الأنسان فآقتدوا به”.
ومن هنا تنبعُ شفاعةُ القديسين. عندما تُعَّين الدولة موظفًا تكَّلفُه خِدمةً وتُخَّولُه سلطةً، وإذا أدَّى واجبه بشكل ممتاز تكافِئُه وتُقَّدمُه نموذجا للآخرين. لأنَّ عمله يُمَّجدُ الدولة ويُعَّظمُها. فتفتخرُ به. هكذا هو الأنسان البار عند الله. يفتخرُ ويتمَّجد به كما فعل بعبده أيوب (أي1: 8؛ 2: 3). لخاطر إبراهيم كان الله مُستعِّدًا أن يعفيَ أهلَ سدوم وعامورة لو كان وُجدَ بينهم فقط ” عشرة أبرار”! (تك18: 32). ولما تشَّفعَ موسى عن شعبه وطلب إعفاءَه من القصاص إستجاب لشفاعتِه مرتين (خر33: 17؛ عدد14: 20). وقبل يسوعُ وساطة مريم في قانا وحَوَّل لأجلها الماءَ خمرًا (يو2: 7-10)، ووساطة شيوخ اليهود وشفى خادم الضابط الوثني (لو7: 2-10). وكان يكفي وقوع ظل بطرس على المرضى المصفوفين في الشوارع حتى يُشفوا (أع5: 15-16). وكانت تكفي مناديلُ أو مآزر لمست جسم بولس ثم وضعت على المرضى حتى تشفيهم (أع19: 12). كما أقام ميتا هو (أع20: 7-16) وبطرس أيضا (أع 9: 36-42). إنَّ شفاعة القديسين لم تختلقها الكنيسة، بل أشهرها الله لأنها تقودُ الى مجده هو الذي يُجري المعجزات لتأييد الحق والبر الذي يتحَّلى بهما الأنسان القديس. وإذا إلتجأ الناس إليهم لا يَسْتَجْدون صدقة وبركة منهم بل من الله عن طريقهم لأن المؤمنين لا يجدون أنفسهم أهلاً ليطلبوا مباشرة من الله الذي يخطأون اليه كثيرًا.
إذا أصبح البعضُ عبدًا للناس أو التماثيل أو التقاليد فهذا ليس من تعليم الكنيسة، فلا تفتخرُ بهم ولا تؤَّيدُ سلوكهم. ولا أرشدتهم يومًا الى ترك الله والإلتجاء الى القديسين. ولكن غلطة البعض وآنحرافَهم لا يُغَّيرُ الحقيقة الألهية وهي أنَّ الله يرضى عن محبيه وعن الحافظين لوصاياه ويُمَجِّدُهم بتلبية صلاتهم ليكونوا قدوةً لغيرهم.
وإذا خرج البعضُ من رجال الدين عن طريق الأيمان المستقيم فكَرَّسوا جهودَهم للأمور الدنيوية، من سياسية وآقتصادية، فلهم الله الذي يُحاسبهم. أما نحن البشر فلسنا معصومين عن الخطأ، بل نخطأ كثيرًا فلا ندينُ غيرَنا (يو8: 7). فالدين الحقيقي يُعَّلمُ الأنسان أن ” لا يدين” (متى7: 1) لأنَّ اللهَ نفسَه لا يحكمُ على أحد بل يُعطيه فرصة التوبة لأنه يريدُ خلاص العالم (يو12: 47).