التعـازي: متى وكيف!
القس بـول ربــان
طرحَ سائلٌ كريم هذه الأسئلة وأبقى إسمه “مجهول”، نظرًا لأنَّ الأمر لا يخُصُّه هو فقط بل مؤمنين كثيرين تتقاذفهم “القيل والقال” بين العادة القديمة والمستجَدَّات من المقررات الكنسية.
التعـازي!
أن نتَعَّزى عن ماذا وكيفَ؟ طبعا نتعَزَّى عن أهل وأصدقاء فقدناهم “جسديًا وزمنيًا”. نتسَلَّى ونتعَوَّد على فراقِهم، فلا يطولُ حُزننا وألمُنا. هذا هو المفهوم الدنيوي عن مراسيم التعازي. أما المسيحية فأدخلتنا جَوًّا آخر وأضفتْ عليها نورًا وقوَّة أفضل للحصول على نيل التسلية الحقيقية المطلوبة. يقول مار بولس: “لا نريد أيها الأخوة أن تجهلوا مصيرَ الراقدين، لئلا تحزنوا كسائر الناس الذين لا رجاءَ لهم، فإذا كنا نؤمنُ بأنَّ يسوعَ ماتَ ثمَّ قام، فكذلك نؤمن بأنَّ الذين رقدوا في يسوع سينقلهم الله إليه مع يسوع… فليُشَّجِعْ بعضُكم بعضًا بهذا الكلام” (1تس4: 13-14).
إذن نحن كمسيحيين عزاؤُنا في الرب، وإيماننا بأن المَيِّتْ انتقل الى حياةٍ أفضل، ولهذا لا نُطَّولُ في مراسيم تعازينا ولا نُكَّثر من عدد أيامها ومناسباتِها، بل نكتفي بما يُسَّلينا عن الفراق بالصلاة وطلب عون الرب للميت ولأنفسنا، ومهما إشتَدَّ حُزننا أو تفاقمت خسارتُنا بالمفقود فلن تصلَ الى مستوى خسارة مريم بآبنها الوحيد الشاب البريء والكريم نموذج الأنسان صورةِ الله، ومريم لم تعقد العزاءَ غير ثلاثة أيام.
عليه فالكنيسةُ نظمت تعازي أبنائها المؤمنين على مثال مريم ورجائها، وطلبت الكنيسة أن تكون تلك الأيام فرصةَ الصلاة للميت ولذويه لترفعهم إلى الرجاء بالحياة الأبدية والتعامل مع الموت بالتغَّلبُ على شوكتِه بالأيمان لا بالبكاء أو الحديث الدنيوي الفارغ ولاسيما لا بمظاهر الاحتفالات المطبخية بتكثير الأطعمة وتنويعها بحجة تقليد أو عادة، ومَن صَنَعَ تلك العادات والتقاليد غير الناس. لا نتشَبَّه بأهل العالم بل نستعمل إيماننا، هذا ما يقوله أيضا مار بولس: “أما نحن أبناء النور فلنكن صاحين، لابسين درع الأيمان والمحَبَّة وخوذةَ رجاءِ الخلاص” (1تس5: 8).
السابع، والأربعين، والسنة!
أما هذه فمن إختراع الناس، تقليدًا لغير المؤمنين، وحُبًّا بالتظاهر في المجتمع، فالمظاهر الحالية للتعزية لا تنفعُ الميّتَ بشيء، إنها تصَّرفاتٌ لأجل نيل مديح الناس لا لومَهم، بدأ بها الأغنياء والملحدون والمتفلسفون وتبعهم فيها كلُّ الناس المؤمنين والفقراء والعقلاء لأنهم لم يقووا على مقاومة المَدَّ العلماني الزمني وذلك على حساب الأيمان والرجاء بالحياة الأبدية. وما عمله الكل أصبح تقليدًا مقَدَّسًا لا يتجاسر أحدٌ أن ينطحه، لأنه إذا لم يقدر أن يُزيحَه كليا فسيدفعُ ثمنًا غاليًا وتتحَطَّم قرونُه. يتحدَّثُ أحد علماء الكنيسة الكلدانية من الجيل العاشر- الحادي عشر عن عادة التعازي فيقول إنها كانت قديمًا، قبل المسيح، تقامُ في اليومين الثالث والتاسع. أما الرسل فسنوا بها قانونًا وأمروا بأن تقام في الثالث وبالشكل الآتي: “لقد قال الكتاب إستعمِل الحزنَ مقدار يوم وآثنين، لأجل الناموس، وفي الثالث تعَزَّ لأجل الحياة. لأنَّ المسيحَ قام في اليوم الثالث. أما التاسع والثلاثين والسنة فيُعملُ لهم ذكرٌ، أي يُذكرون في الصلاة”، لا إقامة عزاء (ابن الطيب، فقه النصرانية، جزء2، طبعة لوفان 1957، النص ص108 رقم 43). ويبدو أنَّ التاسع المُلغَى عاد الى المسرح تحت إسم السابع والثلاثين تحت إسم الأربعين.
من سمع منكم سمع مني! { لو10: 16}
للعلم أنَّ الكنيسة خصصَّت للعزاء صلواتٍ ورُتبٍ بآسم “الجناز” وآكتفت بتهيئة برامج صلاة للدفنة وهو الأول للعزاء ولليوم الثاني وللثالث وفيه يُختم العزاء. ولا زالت جماعاتٌ معَّينة تقدمُ للمعَّزين في اليوم الثالث، لاسيما من الأهل والأقرباء، وجبة غداءٍ تنهيها إشارةً الى إنتهاء الحزن، بتقديم الحلويات! ولم تُخَّصِصْ صلاةً لا للسابع ولا للثلاثين أو الأربعين ولا للسنة. وكلَّ الصلوات تُوَّجهُ المؤمنين المُصابين بوفاة عضو من عائلتهم إلى أن يرفعوا ألحاظهم الى مريم وهي واقفة تحت الصليب بجرأةٍ وتصميم وتقبل آلامَها، وأن يتعَّزوا مثلها بقيامةِ المسيح الذي بقيامتِه ضمنَ قيامة كلِّ مؤمن أمينٍ وَفِيٍّ لمبادِئه. والقيامة مع المسيح تعني مشاركتَه مجدَه وسعادتَه (يو17: 20-24). وهل هذا يدعو الى الحزن أم الى الفرح؟
وللعلم أيضا بأنَّ الكنيسة الكلدانية إقترحت في مؤتمرها العام سنة 1995 “التخفيف من المظاهر الشكلية للدفن والتعازي” وذلك بإلغاء العادات غير المسيحية في مجالس العزاء و المعروفة بالسابع والأربعين والسنة وما يرافقها من البهرجة والبذخ على الأطعمة بشكل متضاربٍ مع الأيمان (نجم المشرق، سنة 1998، العدد 15، ص19، الرقم 49). وآستنادًا الى هذه المقترحات قرر سينودس الطائفة سنة 1998 إلغاء تلك المناسبات والتوقف عند الثالث. وهذا لا يعني أنها ترفض الصلاة من أجل الموتى. لا، لكنها رفضت إقامة الجنانيز وقبول العزاء بشكل رسمي وانتظامي كالسابق. أما الصلاة من أجل الميت فيمكن أن ترفعَ في كل وقت وحين، وفي كل الأيام، ولكن دون إعلان الأسماء لاسيما لموتى قدامى مرت عليهم سنوات بل وحتى أشهر. والهدف ألا يعود المؤمنون الى الوقوع في فخّ المظاهر.
صلّوا كلَّ حينٍ ولا تمَّلوا!
وهناك ما ظهر في السنين الأخيرة بخصوص “جناز صلاة الثالث وإقامة التعزية قبل الدفنة”، وهناك من مؤيدٍ ومن معارض. والأمرُ يخُصُّ الجاليات الكلدانية في بلاد الأنتشار وليس في الرقعة البطريركية الشرقية التي لم تعرفُ بعد نظام تأخير الدفنة الى أيام وأسابيعَ بعد الوفاة. المُعارضون حُجَّتُهم أنهم لم يشهدوا إقامة الجناز والعزاء قبل الدفنة، وأنَّ هذا تقليدٌ وتراثٌ ورثوه عن الآباءِ والأجداد. ولا يجوز تغييرُه. لكنهم مع ذلك يقيمون مراسيم عزاء رسمية، يومًا أو يومين، قبل الدفنة، في قاعاتٍ مُؤَّجرة وحتى توفير العشاء للمشاركين في العزاء. ويوم الدفنة وبعدَها يقدمون لقمة الرحمة ثم يكتفون بعده بإقامة الجناز وقبول العزاء لفترةٍ قصيرة.
أما مؤَّيدوا إقامة صلاة الثالث قبل الدفنة فيقترحون ذلك أولا إذا وقع فراغٌ طويل بين الوفاة والدفنة وتخللها يوم عطلة (الأحد في الغرب). وثانيًا لا ينتظر الله الدفنة ليجري الحساب مع الميت، بل يتم الحساب حال الوفاة! هكذا قال يسوع للص التائب: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو23: 43). وثالثًا الميت بحاجة الى الصلاة من وفاته وليس بعد دفنه، ورابعًا يُقيم الأهلُ العزاءَ الرسمي قبل الدفنة بحجة الصلاة من أجل الميت، أ فلا يحُّقُ للكنيسة أيضًا أن تُسعفَ عضوها المحتاج إلى الصلاة؟ خامسًا إن كان اليوم الثالث في الشرق اعتبارا من الدفنة فقلَّما تتأخرُ الدفنة أكثر من عشرين ساعةً، في حين قد تتأخر في الغرب الى أحيانًا عشرة أيام إن لم تطُلْ أكثر. سادسًا إنَّ دفنة البابوات تتم أيامًا بعد وفاتهم تقيمُ الكنيسةُ عن أرواحِهِم يوميا صلاة الميت الى حين الدفنة. وبعدَ الدفنة تتوقف الصلاة الرسمية العلنية. سابعًا عندما توفيَ البطريرك مار عمانوئيل دلي جُنِّزَ له في سان دييغو قبل نقل جثمانه الى ديترويت، وقبل دفنها هناك جُنِّزَ له أيضًا في بغداد من قبل البطريركية بشكل رسمي مع قبول التعازي عن روحِهِ. وأخيرًا ما نظَّمه آباؤُنا وعايناه في الماضي وفي ظروفٍ خاصَّة يعود الى صلاحية الكنيسة ويصبو الى خلاص المؤمنين. وبنفس الهدف واستنادا الى نفس الصلاحية تقدرُ الكنيسة أن تُغَّير ما يدخل تحت حُكمها وتقيمَ بديلاً له تراه أنسبَ وأفعلَ لتقوية رجاء المؤمنين بالخلاص وإبعادهم عن التقوقع في عادات ليست إيمانية ولا تبني، وتتبنَّى ما تراه أفضل لزمانها ومكانها وظروفها.
إن كُنا مؤمنين بالمسيح ونرجو مجازاتَه، علينا أن نخضع لتوجيهات الكنيسة وقراراتها التي لا تتوخى سوى خيرنا الأعظم. ما ينفعنا ليس التمَّسكُ حرفيًا بعاداتٍ قديمة بل هو إغتنام الفرصة، كما قال الرسول، “لأنَّ هذه الأيام شَرٌّ كلُها” (أف5: 16). ونرى حاليًا كم العالم شِرّيرٌ وكم مآسيه قاسية ومؤلمة. نحن لسنا منهُ (يو17: 14؛ 15: 19) حتى نتبعَ مبادِئه. نحن فيه لنُطَّعِمَه بمباديء يسوع وروحِه. علينا أن نهتَّمَ بخلاص أهل العالم بالشهادةِ ليسوع (أع 1: 8) لا أنْ نجريَ وراءَه كعميان نحو هلاكِنا. المسيح أحَّبَنا ومات من أجل فدائِنا لا سيّدُ أو أسيادُ العالم. المسيح يضمن لنا الحياة لا قادة فكر العالم. نحو مدعوون الى الأيمان بهذا والوثوقِ بالكنيسة بأنها هي تريدُ خيرَنا لا التقاليدُ والعادات. وما نمارسُه نقوم به بسبب إيماننا وإرضاءً لله لا للبشر مهما كانوا أصدقاءَ أو حتى أقرباء.
يقول الرسول:” لا تعيقوا عملَ الروح (الذي يوجه الكنيسة في تعليمها). ولا تستهينوا بالنبوءات (لأنَّ نبوءة الكنيسة هي تعليمٌ يبني ويُشَّجع ويُعَّزي ـــ 1كور14: 3). بل إمتحنوا كلَّ شيءٍ وتمَّسكوا بالحسن، وتَجَّنبوا كلَّ شر” (1تس5: 19-22). فليس جديدُ الكنيسةِ كُفرًا. بل هو نورُ المسيح الذي يقودنا الى الحَّق ويُحَّررُنا من ظلام أنفسنا (يو8: 31-32).