بين المسيحية والمندائية!
أهلا وسهلا بالأخ عماد أبو ستيفن
سأل الأخ عماد، نيابةً عن صديق، عما هي العلاقة بين الديانتين خاصّةً وأنَّ المندائيين يدّعون أننا وإيَّاهم ” أولاد الخالة “. وأضافَ السائل الكريم وقال:” ولماذا لم يتبعوا إذن المسيح إذا كان مار يوحنا هو الذي عَمَّـد المسيح“؟
بين المسيحية والمـندائية!
حتى نتبيَّنَ ما يُقَّربُ وما يُبَّعدُ بينهما علينا أن نعود الى زمن قيام المؤسستين. نتذكَّرَ أن يسوعَ كانَ معروفًا أو أقَّله يُدعى ” ناصريًا”. لفظة ” الناصري” لا تقتصرُ فقط على الأنتماء الى مدينةِ الناصرة. بل يتعَّداها الى مؤسسةٍ أو تيَّارٍ روحي دُعيَ شعبيًا بـ “نزيري”، وعلميًا بـ “أسيّني”، أي الطاهر والنقي. ونزرايا أو نصرايا تعني الأمين أو الصامد. كانوا يستعدون لآستقبال المسيح المنتظر في الفكر والقلب، روحيا لا مثل الفريسيين موجب حرف الشريعة ولا مثل الصدوقيين في مظهر السلطة والجاه. كان يوحنا المعمدان أحد أفراد تلك الجماعة. كانوا يعيشون في البرية على ضفاف البحر الميت. كانوا يمارسون طقوس التنقية والتطهير بالتعميد، أو آلآصطباغ. منهم تعَّلمَ يوحنا عملية المعمودية. وكان العماد يرمز أيضا الى التوبة. لذا نسمع يوحنا يقول: “أنا أعَّمد بالماء للتوبة” (متى3: 11). ولما اعتمد يسوع وآتخَّذ له التلاميذ صار هو أيضًا يُعَّمد ويعَّلم تلاميذه عن رمزه الروحي ويُدَّربهم على إجرائه عندما يحين الوقت.
فآعتقد اليهود أن يسوع ينتمي الى تيار “النزيريين” أو الأسّينيين مثل يوحنا. لأنه كان يعتزل في البرية ليختلي الى ذاته للصلاة (متى4: 1؛ لو6: 12). لا بل خلط البعضُ بين الشخصين، بسبب التقارب بين نشاطهما التعميدي وسلوكهما الروحي وتعليمهما الداعي الى التوبة (متى3: 2؛ 4: 17). حتى هيرودس الملك نفسه اعتقد أولا أن يسوع ليس سوى يوحنا الذي قتله، قد قام (متى 14: 2). ونعرف أنَّ يسوع إعتمد من يوحنا ودعا الناس الى التوبة ومجَّدَ الفقراء بالروح وأنقياء القلب وسَّنَ المعمودية بابًا للدخول الى الأيمان الجديد: “..تلمذوا وعَّمـدوا..” (متى28: 19). لم يلتقِ يسوع بيوحنا بعد أن إعتمد منه. لأنه قبل أن يباشرَ يسوع تبشيره كان يوحنا قد أُلقيَ في السجن (متى4: 12). ولم يطل سجنه حتى قتله هيرودس. وقبل أن يستشهد كان قد تجَّمَع حوله تلاميذ، منهم أندراوس وبطرس ويوحنا ويعقوب.. هؤلاء وغيرهم تبعوا يسوع. لكنَّ تلاميذ آخرين لم يؤمنوا بيسوع ولم يتبعوه. وقد بعث يوحنا وهو في السجن بعضًا منهم عند يسوع ليلتقوا به ويتعَّرفوا عليه بعمق ويتبعوه (متى 11: 2-3). وصرَّح لهم علنًا أن يسوع هو المسيح المنتظر فـ “له ينبغي أن ينمو ولي أن أختفي” (يو1: 33-34؛ 3: 28-30).
ولما ثار اليهود في وجه روما بطش بهم القائد طيطس سنة 70م ودمَّرَ الهيكل وشَرَّدَ الناس يبدو أن جماعة الأسينيين تشتتوا وبحثوا لهم عن مكان آمن وملائم لطقوسهم فآلتجأوا الى العراق حيث كان قد سبقهم غيرهم من اليهود وشكلوا هذا التيار. لكن ما جرى للمسيح وما ظهر لهم غيَّر معتقداتهم كثيرًا. فصاروا يؤمنون بثنائية الكون: ألله واحد حَّي يسكن العلى عالم النور، وبشر ساقطون في الأسفل في عالم الظلمة والفوضى، يرسل إليهم الله في كل حقبة تاريخية مهمة رسولا يوحي إليهم الحق. ويسوع المسيح ليس سوى أحد أولائك الرسل، نبيا فقط مثل إبراهيم وموسى وغيرهما. ويوحنا نبيُّهم كان مرسل الله مثل المسيح.
أولاد الخالة!
تحَدَّثَ الملاك عن إليصابات وسَمَّاها “نسيبة” مريم، أي قرابتها. لم يُحَدِّدْ أنها خالتُها. لم يذكر التأريخ أُختًا لِـ” حنة ” أم مريم. إنَّ رسالة يسوع المسيح أن يجمعَ فيُوَّحدَ أبناءَ الله. لذا لا غرابة أن يُشَّدد ويُقَّربَ بين أناس قد يكونون بعيدين بقياس البشر. أما سَمَّى يسوع كلَّ من يسمع كلام الله ويحفظه أخاه؟. وإذا كان يوحنا فعلا أبن خالة يسوع وهو عمَّدَ يسوع و دعا تلاميذه الى إتّباعِه لماذا لا يؤمنون بيسوع ولا يتبعونه؟. ويوحنا نفسه يرفُض أن يكون في مقام يسوع. بل أعلن أنه لا يستحِّقُ حتى ولا أن يحُّلَ سير حِذائِه (لو3: 16). مع ذلك
رفض بعضهم تعليم نبّيهم ولم يعترفوا بيسوع أنه المسيح، الآله المتجسد. بينما أكَّدَ يوحنا: ” أنا رأيته وشهدتُ أنه هو إبنُ الله “؟(يو1: 34). كما نعلم أنَّ رسالة يوحنا كالمسيح تترَّكز على بُنُّوَةِ الله وليس على الحسب والنسب. ثم في الأخير لم يتزوَّج لا يوحنا ولا يسوع حتى تكون بيننا قرابة دموية.
أما القرابة التي تجمع بيننا فهي روحية، مبدأ الطهارة الباطنية والدعوة الى التوبة عن سلوكِ دربِ الملّذات والخيرات الحّسية فلا نبتغي الجسد والمال والجاه الدنيوي. وفي حين تحدَّثَ يسوع عن السلوك الحيوي فكَنَّى الفضيلة بالباب الضيق والرذيلة بالباب الواسع والرحب (متى 7: 12) تحَدَّثت المندائية عن كونين متعارضين وسَمَّتهما بعالم العلى والنور وعالم الفوضى والظلمة. ربما أخذوا هذه من أقوال يسوع لأنه قال:” من يعمل السَّيئات يُبغضُ النور.. يُفَضِّلُ الظلامَ على النور.. ولا يُقبلُ الى النور لئلا تفتضحَ أعماله “(يو5: 19-20). ويتبيَّن المطلعُ على طقوس المندائيين بأنَّهم أقربُ الى اليهودية مما الى المسيحية رغم وجود شواهد عديدة على تأثرهم بالمسيحية أيضا. وهذا إن دَلَّ على شيء فهو يدًلَّ على أنَّ العقيدة المندائية لم تثبت إلا بعد ثبات المسيحية.
المنـدائيــة!
كلمة ” المندى” ومنها “المندائية” تعني بالآرامية ” المعرفة” والتعَّلم إشارةً الى أنَّ أصحابَ المذهب يقفون على ناصية العلم الصحيح. وتقابلها باليونانية ” الغنوصية “. وقامت في القرون المسيحية الأولى بدعة بهذا الاسم دعت الى الأمتناع كليا عن الملذات، حتى حَرَّمت الزواج، حرمتها الكنيسة فآختفت. والأنسان يبحثُ دومًا أن يعرفَ أكثر، بل وأن يعرفَ كلَّ الحقيقة، حتى يتصَّرفَ، حسب قناعتِه، كما هو أفضل. كان الشعبُ اليهودي بآنتظار ظهور المسيح المخَّلص. ورأت المسيحَ كلُّ مجموعةٍ على شكل مختلفٍ من غيرها. عامة الناس توَّقعوه وآنتظروه ملكًا أرضيًا يُعيدُ أمجادَ مملكة داود وسليمان. رآهٌ الفريسيون ملكا دينيا يتبنى الشريعة دستورا له. أما الصدّوقيون فرأوهُ ملكًا دنيويًا على غرار ملوك الأرض قوته السلاح والعنف. أما فئة الأسينيين فتعَّمقوا أكثر في الأيمان ونحوا منحًى روحيا فرأوه مُنقذًا روحيًا من الخطيئة وتبعاتها التي تورطَّ فيها الأنسان وخسرَ بذلك إمتيازه. فرسالة المسيح وملوكيته هي روحية تهدفُ تطهير الأنسان من دنسه وآستعادة كرامته. وللتعَّرف عليه عند ظهوره يجب أن يتحَّلى الأنسان أيضا بفكر طاهر وقلبٍ نقي، كما قال داود:” قلبا نقيًّا أُخلق فيَّ يا الله وروحًا مستقيمة جَدّدْ في أحشائي”.
ولمَّا جاءَ المسيح، وتعَّمدَ من يد أحد أعضاءِ جمعيتهم، صعبَ على البعض منهم أن يتعَّرفوا عليه ويقبلوه كذلك ويتنازلوا عن فكرهم وإرثهم وتطَّلعاتِهم. ربما كان يوحنا عزيزًا وغاليًا عليهم، كما كان يسوع لرسله وتلاميذه، فلم يقووا على تحَّدي تشَّبثهم العاطفي به، فظلوا متمسكين به أكثر من يسوع الى أن إبتعدوا عن يسوع كُليًّا، خاصَّةً بعد صلبِه، ما لم يكونوا يتوقَّعونه. وعندها تغَّيرَت عندهم فكرة إنتظار مسيحٍ واحد موعود الى نظرةٍ جديدة للكون ومعتقداتٍ إعتبروها الحقيقة وظلوا متمسّكين بها الى اليوم.