أ ليس اللهُ أقسى من الأنسان في الدينونةِ؟
القس بـول ربــان
أهلا وسهلا بالسائل الكـريم
جاءَني هذا السؤال من صديق كتبَ يقول: إنَّ جميعَ الوصايا “لا تسرقْ، لا تزنِ، لا تقتل..” تقاسُ بنفسِ المِعيار. وقد أوضحَ الرَبُّ يسوع بأنَّ من يفَّكر بالزنى ويشتهيه يخطأُ كما لو كان قد فعله. بينما القاضي الأنسان لا يَحكمُ على من نوى السرقة أو الزنى لكنه لم يسرقْ أو لم يزنِ. فتساءَل: لماذا يظهر اللهُ قساوةً أكبر من البشر؟
أين هي الخطيئة؟
يُعَّرفُ التعليمُ المسيحي الكاثوليكي الخطيئة بما يلي: “الخطيئة إساءَةٌ الى العقلِ والحقيقةِ والضمير المستقيم. وهي إجحافٌ بالمحَّبة الحقيقية لله والقريب، بسبب تعَّلُقٍ عظيم ببعضِ الخيور. إنها تجرحُ طبيعةَ الأنسان وتؤْذي التضامنَ البشري. وقد حُدِّدَتْ بأنها “كلمةٌ أو فعلٌ أو شهوةٌ تخالفُ الشريعةِ الأزلية”. {الرقم 1849}؟ ويُضيفُ الرقم التالي {1850} فيقول:” الخطيئةُ إهانةٌ لله: “إليكَ وحدَكَ أخطأتُ..” مز51: 6. وهي تقفُ في وجه محَّبةِ اللهِ لنا، وتُبعدُ عنها قلوبَنا. وهي كالخطيئةِ الأولى معصيةً وثورةً على الله، بإرادة أن نصيرَ كآلهة (تك3: 5) نعرفُ ونُحَّدِدُ الخيرَ والشَّر. وهكذا فهيَ “محَّبةُ الذات حتى احتقارِ الله”. وبتعظيم الذات المتعَجرِفْ هذا تكون الخطيئة مخالِفةً تمامًا خضوعَ يسوع الذي حَقَّقَ الخلاص”.
أساسُ الخطيئة ليسَ الفعلَ الحِسّي والمادي بقدر ما يغوصُ الى أعماقِ الأنسان، الى فكرِه وقلبِه. هذا ما صَرَّحَ به اللهُ نفسُه، في معرضِ الكلام عن الطاهر والنجس، فقال: “ليس ما يدخُلُ الى باطن الأنسان {ما يفعله بحواسه} يُنَّجسُ الأنسان،…، بل ما يخرجُ من باطن الناس. من قلوبِهم تنبعثُ مقاصدُ السوء: الفحشُ، والسرقةُ، والقتلُ، والزنى، والخُبثُ، و.. و.. و.. هذه تُنَّجسُه” (مر7: 18-23). الخطيئة هي إذن تشويه للطبيعة وتدنيسُ لها. الله قدّوسٌ وطاهرٌ، وخلقَ الأنسان على صورته نقيًا طاهرًا. بالخطيئة شَوَّه الأنسان هذه الصورة ودَنَّسَها. لذا أُضطُرَّ الى هجرةِ الجنة التي لم يبقَ بعدُ لائقًا بها وأهلاً لها. لم يكن للإنسان يومئذٍ خبرةً تحميه من السقوط في الخطأ. فجاءَ المسيح وتابَ ودفعَ ثمن تلك الخطيئة، ودعا الناس مثله الى التوبة (متى4: 17)، ثم الى القداسةِ والكمال على صورةِ الخالق (متى5: 48). وآفتهم المؤمنون بالمسيح تلك الدعوة: “إنَّ اللهَ لم يَدعُنا الى النجاسة، بل الى القداسة. ومن استهان بذلك لا يستهينُ بإنسان، بل يستهينُ بالله نفسِه، وهو الذي يجعلُ فيكم روحَه القدّوس”(1تس4: 7-8).
الخطيئة إذن هي ضِدَّ الله روحِيًا، لأنَّ الله روحٌ. ونحن نقرر بفكرنا ونرغب بقلبنا لا بالجسد. روحنا الناطقة، الحرة العاقلة، هي التي تخلد لا الجسد. والروح هي التي تحيا وتفعل بواسطة الجسد. أفعال الروح هي التي تُقَّررُ مصير الأنسان. وقد يحدثُ أن يُخالفَ الأنسانُ ويؤذي دون أن يخطأ. كم صَيَّادًا قتلَ رفيقَه الصياد المختبئ وراء الأشجار دون أن يعلم ولا حتى أن يريد! إنه ليس مُذنبًا رغمَ أنه قاتل! وكلُّ خطيئةٍ أو فعلٍ كانَ سَّيئًا أو جَيِّدًا يختمرُ أولاً في الفكر ثم القلب ثمَّ تُنَّـفِذُه الحواس. لذا إذا تم التفكير في سرقةٍ أو زنىً وآستقَرَّ الرأيُ على تنفيذه يكون الأنسان قد أخطأ حتى لو لمْ يُنَّفذ بعدَه رغبتَه. لأنه دَنَّسَ النفسَ الطاهرة وشَوَّهَ صورة الخالق فيها. وبالتالي يحتاج الى التوبة عنها ليستقيمَ أمرُه مع الله.
وموقف القاضي!
أما القاضي الأنسان فهو لم يخلق الأنسان حتى يُحاسبَه على قداسةِ نفسِه وسلوكِه. القاضي موَّظفٌ يحكمُ بموجب قوانين البشر. والبشر لا يُمكن محاسبَة ضميرِهم أو شهواتِهم. القاضي يحكم الأفعال المُرتكبة. والقاضي يحتاجُ الى أولاً ان يُثَّبتَ جريمة المُتَّهم، ثم أن يقضيَ بموجب القوانين التي أصدرَها الأنسان. وحتى يتحَّققَ من ذلك يحتاجُ الى شهود. لأنَّ القاضي ليس حاضرًا في كل مكان ولا يرى كلَّ شيء، لذا لا يقدر أن يُثَّبتَ الحقيقة بنفسِه. أما الله فيرى أظلمَ أعماق الأنسان. إنه فاحصُ الكلى والقلوب يعرفُ فكرَ الأنسان ورغائبه (رم8: 27؛ مز7: 10؛ ار11: 20). فحيث يحتاج القاضي الى شهود لا حاجة للهِ بهم. وإذا كان القاضي لا يقدر أن يثَّبتَ جريمة وقعت بأفعالٍ علنية معروفة ومحدودة كيف يقدر أن يحكم على ما خفي داخل الضمير والفكر والقلب؟ لا القاضي ولا أيُّ إنسان قادرٌ على معرفة ما يجري داخل الأنسان من فكر أو رغبة. لذا لم يقدر المُشَّرع لا أن يدينَ ولا أن يُبَّررَ فكر الأنسان ورغبته الباطنية إلا اللهّم إذا اقترنت بأفعال خارجية ملموسة ومُثَّبتة. مئاتُ المجرمين يُخَّططون لمآسٍ بل أحيانًا يباشرون حتى بتنفيذها ويعجزُ القاضي عن دينونتهم لعدم توَّفر الأدّلة المُدينة. فالمجرمَ بريءٌ حتى تثبتَ إدانتُه. ومن يشهدُ على ما يجري في داخل الناس؟ لا أحد.
فالقاضي ليس أرحمَ من الله ولا دينونته أعدَل. بل إنه ضعيفٌ جدًّا لأنه لا يقدر أن يُعالجَ السوءَ والشر في جذوره. الله قادرٌ على ذلك، وهذا هو ما يفعله: إنه يدينُ الشَّر في أصلِه ويريدُ أن يستأصله من جذورِه حتى لا ينبتَ من جديد.