عظة قداسة البابا فرنسيس في القدّاس الإلهي عشيّة عيد القيامة المجيدة
موقع الفاتيكان
ذهبت النّساء إلى القبر مع أوّل أضواء الفجر، وفي داخلهنَّ ما زال ظلام الليل مخيِّمًا. كُنَّ سائرات، لكنّهنّ واقفات: بَقِيَت قلوبهنَّ عند أقدام الصّليب. لقد غمرتهن دموع الجمعة العظيمة، وأصابهن الألم بالشّلل، وشَعَرن أنّ كلّ شيء قد انتهى، وأن حجرًا وُضِع على كلّ ما يتصلّ بيسوع. كان الحجر هو مركز تفكيرهنّ. في الواقع، سألنَ أنفسهنَّ: “مَن يُدَحرِجُ لنا الحَجَرَ عن بابِ القَبْر؟” (مرقس 16، 3). لكن عندما وصلنَ إلى المكان، صدمتهنّ قوّة الفصح المفاجِئَة، يقول الإنجيل: “فنَظَرْنَ فرَأَيْنَ أَنَّ الحَجَرَ قَد دُحرِج، وكانَ كَبيرًا جِدًّا” (مرقس 16، 4).
أيّها الإخوة والأخوات، لنتوقّف عند هاتَين اللحظتَين، اللتَين تقوداننا إلى فرح الفصح المدهش: أوّلًا، تساءلت النّساء بألَم من سيُدحرج الحجر، ثمّ، نظرنَ ورأيَنَ أنّه دُحرِجَ من قبل.
أوّلًا، هناك سؤال يتردّد في قلوبهنّ التي حطَّمَها الألم: من يُدحرج لنا الحجر عن القبر؟ كان هذا الحجر نهاية قصّة يسوع، الذي دُفن ليلة موته. هو، الحياة الذي جاء إلى العالم، قُتِل. وهو، الذي أظهر محبّة الآب الرّحيمة، لم يَجِدْ رحمة. وهو، الذي أزال ثقل الحكم عن الخطأة، حُكم عليه بالصّلب. أمير السّلام، الذي حرّر الزّانية من العنف وغضب الحجارة، دُفِن ووُضِع خلف حجر كبير. هذا الحجر، العائق الذي لا يمكن تجاوزه، كان رمزًا لما كُنَّ يحمِلْنَ في قلوبهنَّ، ونهاية رجائهنَّ: تحطّم كلّ شيء على ذلك الحجر، في ظلام السّرّ والمأساة الأليمة التي منعت تحقيق أحلامهنّ.
أيّها الإخوة والأخوات، يمكن لمثل هذا أن يحدث لنا أيضًا. أحيانًا نشعر أنّ حجر القبر الثّقيل وُضع على باب قلبنا، فخنق حياتنا، وأزال ثقتنا، وقيَّدنا في قبر مخاوفنا وحسراتنا، وأعاق طريقنا نحو الفرح والرّجاء. إنّها ”صخور الموت“ التي نلتقي بها، على طول مسيرتنا، وفي كلّ الخبرات والمواقف التي تسلبنا حماسنا وقوّتنا للاستمرار في مسيرتنا: في الآلام التي تحِلّ بنا، وفي موت أحبّائنا، الذي يترك فينا فراغًا عميقًا، وفي فشلنا ومخاوفنا التي تمنعنا من القيام بأعمال الخير التي نريدها، وفي انغلاقاتنا كلّها التي توقف اندفاع سخائنا ولا تسمح لنا بأن نفتح أنفسنا على المحبّة، وفي الجدران المبطَّنة للأنانيّة واللامبالاة، التي ترفض الالتزام ببناء مدن ومجتمعات فيها مزيد من العدل والإنسانيّة، وفي كلّ تَوقٍ إلى السّلام حطَّمته قسوة الكراهية ووحشيّة الحرب. عندما نختبر كلّ خيبات الأمل هذه، نشعر أنّ أحلامًا كثيرة صار مصيرها أن تتحطّم، ونسأل أنفسنا نحن أيضًا بقلق: من يُدحرج لنا الحجر عن القبر؟
مع ذلك، النّساء أنفسهنَّ اللواتي كُنَّ يحمِلنَ ظلام الليل في قلوبهنَّ، شهِدنَ لنا بشيء غير عادي: نظرن فرأين أنّ الحجر قد دُحرج، وكان كبيرًا جدًّا. هذا هو فصح المسيح، وهذه هي قوّة الله: انتصار الحياة على الموت، وانتصار النّور على الظّلام، وولادة الرّجاء من جديد وسط رُكام الفشل. إنّه الرّبّ يسوع، إله المستحيل، الذي دحرج الحجر دائمًا وإلى الأبد، وبدأ بفتح قبورنا، حتّى لا ينتهي الرّجاء. لهذا السّبب، علينا نحن أيضًا أن ننظر إليه.
ثانيًا، لننظر إلى يسوع: فهو، بعد أن اتّخذ إنسانيّتنا، انحدر إلى أعماق الموت واجتازها بقوّة حياته الإلهيّة، وفتح لكلّ واحدٍ منّا نافذة نورٍ لا نهاية له. أقامه الآب من بين الأموات في جسده وفي جسدنا بقوّة الرّوح القدس، وفتح صفحة جديدة للجنس البشريّ. منذ هذه اللحظة، إن تركنا يسوع يأخذ بيدنا، فلن يكون لأيّ خبرة فشل أو ألم، مهما جرحتنا، الكلمة الأخيرة في معنى ومصير حياتنا. منذ هذه اللحظة، إن تركنا القائم من بين الأموات يمسك بنا، لن تستطيع أيّة هزيمة أو أيّ ألم أو أيّ موت أن يوقف مسيرتنا نحو مِلء الحياة. منذ هذه اللحظة “نحن المسيحيّين نقول إنّ هذه القصّة… لها معنى، معنى يشمل كلّ شيء، ولها معنى لا يشوّهه بعد الآن اللامعنى والغموض… لها معنى نسمّيه الله… تتدفّق نحوه مياه حياتنا وتغييرات حياتنا كلّها، ولا تضيع في هاوية اللاشيء واللامعنى…. لأنّ قبره فارغ، وهو، الذي كان ميْتًا أظهر نفسه الحيّ” (كارل رانير، ما هي القيامة؟ تأمّلات في الجمعة العظيمة وفي عيد الفصح، بريشّا 2005، 33-35).
أيّها الإخوة والأخوات، يسوع هو فصحنا، وهو الذي جعلنا نعبر من الظّلمة إلى النّور، والذي ارتبط بنا إلى الأبد وخلّصنا من هاوية الخطيئة والموت، وشدّنا بقوّة المغفرة المُنيرة والحياة الأبديّة. لننظر إليه. لنستقبل يسوع، إله الحياة، في حياتنا، ولنجدّد له اليوم قولنا ”نعم“، ولن تستطيع أيّ صخرةٍ أن تخنق قلبنا، ولن يستطيع أيّ قبرٍ أن يحصر فرحنا بالحياة، ولن يستطيع أيّ فشل أن يربطنا من جديد باليأس. لننظر إليه ولنطلب إليه أن تُدحرج قوّة قيامته من بين الأموات الصّخور التي تُثقل نفوسنا. لننظر إليه، هو القائم من بين الأموات، ولنسر ونحن واثقون أنّ الحياة الأبدية التي جاء بها، إنّما هي حاضرة في ظلام توقّعاتنا وكلّ أنواع الموت التي تحيط بنا.
أيّتها الأخت، وأيّها الأخ، ليفض قلبك بالابتهاج في هذه الليلة، الليلة المقدّسة! لنترنّم معًا بقيامة يسوع من بين الأموات: “رنّمي له أيّتها الأراضي البعيدة، والأنهار والسّهول، والصّحاري والجبال… رنّموا لربّ الحياة الذي أشرق من القبر، وسَطَعَ أكثر من ألف شمس. أيّتها الشّعوب التي حطّمها الشّرّ وضربها الظّلم، والشّعوب التي لا مكان لها، والشّعوب الشّهيدة، أبعدوا في هذه الليلة كلّ المرنّمين لليأس. لم يَعُدْ رجل الآلام في السّجن: لقد فتح ثغرة في الحائط، وهو قادم إليكم بسرعة. لِتُولَد في الظّلمة الصّرخة غير المتوقّعة: إنّه حيّ، لقد قام من بين الأموات! وأنتم، أيّها الإخوة والأخوات، الصّغار والكبار… وأنتم الرازحين تحت ثقل الحياة، وأنتم الذين تشعرون بأنّكم غير مستحقّين لأن ترنّموا… لتخترق قلوبكم شعلة جديدة، ولتملأ أصواتكم نضارة جديدة. إنّه فصح الرّبّ، وهو عيد الأحياء” (J-Y. Quellec, Dieu face nord, Ottignies 1998, 85-86).