الاحد الثاني من الصوم – العمل بارادة الآب
الاحد الثاني من الصوم
العمل بارادة الآب
المطران مار ازاد شابا
القراءات تعلمنا السعي الى التناغم في القول والعمل، الانسجام في الحياة الأخلاقية والتعليم الديني، وتساعدنا في التحرر من سلطة الخطيئة الرابضة على بابنا التي تدفعنا الى التخلي عن مسؤوليتنا تجاه الاخوة وتؤجج فينا الصراعات.
تكوين 4/ 1-16
يبتدىء تاريخ العنف أو الصراع في الكتاب المقدس بظهور قايين وهابيل. ويمثل عنف قايين بلغة رمزية، فما هو غير بشري يقتبس من عالم الحيوانات. فقد قال الله لقايين: “ان الخطيئة رابضة عند بابك، واليك تنقاد أشواقها” (4/ 7). وكلمة رابضة لا تستخدم الا للحيوانات. فالنص هنا ينقل لنا العداوة بين البدو الذين يمثلهم هابيل والحضر الذين يمثلهم قايين. فهناك أشخاص غير قايين وهابيل (14-16). تقتضي هذه الرواية قيام حضارة متطورة وعبادات وأناس يمكنهم أن يقتلوا قايين، كما تقتضي وجود عشيرة تحميه. فهذا النص كتب عندما كانت البشرية قد ملأت الأرض في القرن الخامس ق. م، حيث البشر كانوا ينقسمون الى فئتين بين قريب وغريب، بين عزيز وعدو. القصة الأولى للعائلة البشرية، بعد خطيئة الأجداد، تتموضع في عالم قاس وصعب. لا غنى عن العمل في ذلك الزمن، خاصة في مهنتي الرعي والزراعة. لقد كان هناك دائما صراع بين الثقافتين والجماعتين، فالزراعة تستثمر الأرض للفلاحة، أما الرعاة فيتم ابعادهم عن الأراضي المزروعة لأنهم يدمرون ما ينمو. من الأهمية بمكان معرفة أن الفصول 4-11 من سفر التكوين، يطلق عليها أيضا “ما قبل التاريخ الكتابي”، فيجب عدم الخلط بينه وبين عصور ما قبل التاريخ العلمي للعالم.
يتابع الكاتب تأملاته في قصة ابتعاد الانسان عن الله: إن كسر علاقات الشركة العميقة بين الزوجين الأولين يتبعه كسر العلاقات بين الأخوة. بل إن النداء الأول للموت في العالم لم يأت بسبب المرض أو ضعف الجسد، بل بسبب انفجار العنف الذي يدفع نحو نسيان كل قيمة، كل تضامن وكل علاقة عميقة. تبدو ثمار عمل هابيل مباركة، بينما تبدو ثمار عمل قايين، الذي غالبا ما يتعرض للجفاف أو اضطرابات الفصول، ملعونة ومرفوضة. رد الفعل الأول على نجاح الآخر هو الغيرة، وبالتالي الغضب، الكراهية والصراع الذي يصل الى احتمال ازالة الآخر من طريقه. وحدها التجربة تساعدنا على أن نفهم، أن العنصر الأساسي للمسيرة المشتركة هو التضامن بحيث يحصل كل فرد على ما هو ضروري لحياة كريمة. يختلف الأخوان احدهما عن الآخر، في الاسم وفي المهنة وفي العلاقة مع الله. قايين ومعناه: صاحب المقتنى، تبين أمه معنى اسمه: “قد أقتنيت رجلا من عند الرب” (4/ 1)، فالولد هو عطية الله في نظر المؤمن. وهذا اشارة الى أن الرب هو سيد الحياة، ودوره حاسم على مستوى الولادة. أما هابيل فيعني: الدخان، الهباء، والنسمة التي تزول سريعا كما زالت حياة هابيل. نرى هنا نتائج الخطيئة: الحسد، الغضب، القتل والكذب. مع ذلك، نجد أن الله منتبه للجميع وبالتالي لقايين أيضا ويقدم اقتراحات للتعامل مع حالة خيبة الأمل والغضب. يسأل الله آدم: “أين أنت؟” (3/ 9). ثم يسأل قايين: “أين هابيل أخوك؟ (4/ 9). في هذين السؤالين، تجمع وتندرج كل التساؤلات الأخلاقية: سيتم تطويرها من قبل الأنبياء ومن قبل يسوع. نجد أنفسنا أمام خيارات فيما يتعلق بالله وأخوتنا وأخواتنا، وبالتالي المجتمع الذي نعيش فيه.
مغزى هذه القصة: بعد تمرد الانسان على الله، تأتي معاداة الانسان لأخيه الانسان، وهذان الأمران تقابلهما الوصيتان اللتان تلخص بهما الشريعة كلها، محبة الله ومحبة القريب (متى 22/ 40). في هذا النص نجد لأول مرة مسألة تفضيل الأخ الأصغر على الأخ الأكبر. ومغزى هذا أن الله حر في اختياره واحتقاره الأمجاد الأرضية ومعزته الخاصة للوضعاء. وهذه المسالة ترد في أماكن أخرى في سفر التكوين حين يفضل اسحق على اسماعيل، يعقوب على عيسو، وراحيل على ليئة، وهذا نجده في الكتاب المقدس عموما.
رومية 6/ 1-8
أنبقى في الخطيئة؟ طرح هذا السؤال بعد أن قال بولس: “حيث كثرت الخطيئة فاضت نعمة الله” (5/ 20). اعتبر البعض أن التعليم عن التبرير ينزع كل مسؤولية عن الانسان. لماذا لا يخطأ لتكثر النعمة؟ فيرد بولس على هذا الاعتراض. هناك ارتباط بين العماد والاهتداء، حيث يغطس الانسان فيموت مع المسيح، ويخرج من الماء فيقوم مع المسيح. يموت المؤمن مع المسيح لكي يتحرر من سلطة الخطيئة. فالمسيح الذي لم يعرف الخطيئة، تضامن مع البشرية الخاطئة وهو يحرر بموته وقيامته، من سلطان الخطيئة، كل الذين اتحدوا به. من أجل هذا، يجب على المؤمن أن يعتبر أنه مات عن الخطيئة وهو يحيا لله. هو الايمان يجعلنا نعيش على ضوء هذه الحقيقة، نحيا في المسيح، نموت معه ونقوم معه من أجل حياة جديدة. وهذا ما تيقن منه بولس، فيطلب من المؤمنين بل يأمرهم، أن يعيشوا بحسب هذا الوضع الجديد، فلا يدعوا ولا يسمحوا بأن تسود الخطيئة، ويرفضوا تسلطها، مقدمين نفوسهم لله، لا للشر والشهوات.
المسيحي يشارك في موت المسيح وقيامته بالايمان والعماد. حين يتحول تحولا جذريا، يقطع كل رباط بشهواته التي تولد الموت، ويقوم الى حياة جديدة. هذه الحياة الجديدة التي بدأت على الأرض، وتكملت مع قيامة الموتى، هي واقع لا ندركه الا في الايمان. كما أن القيامة تتبع الموت في خبرة المسيح، كذلك يقوم المؤمن الذي مات مع المسيح، لحياة أخلاقية جديدة منذ الآن. فالقيامة كولادة جديدة هي حقيقة وواقع، وهي تنمو يوما بعد يوم في حياة المؤمن. وهكذا يصبح المؤمن أداة بر في يد الله من أجل مشروعه في التاريخ.
متى 7/ 15-27
هذا النص يأتي في خاتمة الخطبة على الجبل، ويتحدث عن الأنبياء الكذبة. الأنبياء يتكلمون باسم الله قبل أن يحاولوا معرفة المستقبل. ولكن الكلام هنا عن الأنبياء الكذبة الذين يشبهون الذئاب في علاقتهم مع الحملان. فمن هم الأنبياء الكذبة؟ هم الذين تسببوا في اثارة الاضطرابات وألقوا البلبلة في الكنيسة منذ أواخر القرن الأول والمشار اليها: في متى: “ويظهر كثير من الأنبياء الكذابين …” (24/ 11)؛ “فسيظهر مسحاء دجالون وأنبياء كذابون …” (24/ 24)؛ وفي أعمال الرسل: “فاجتازا … فلقيا ساحرا نبيا كذابا …” (13/ 6)؛ وفي رسالة بطرس 2: “وكما كان في الشعب أنبياء كذابون، فكذلك يكون فيكم معلمون كذابون …” (2/ 1)؛ وفي رسالة يوحنا 1: “… لأن كثيرا من الأنبياء الكذابين انتشروا في العالم” (4/ 1)؛ وفي سفر الرؤيا: “ورأيت ثلاثة أرواح خبيثة مثل الضفادع خارجة … ومن فم النبي الكذاب” (16/ 13)؛ “فأعتقل الوحش وأعتقل معه النبي الكذاب …” (19/ 20)؛ “… حيث الوحش والنبي الكذاب …” (20/ 10).
ولكن، من الأهمية بمكان أن لا تتوجه أفكارنا فقط الى أشخاص من أيام يسوع. لا شك أن متى قصد أشخاصا مسيحيين من كنيسته. انهم يقومون باسم يسوع ويتظاهرون كخرفان (من القطيع المسيحي) ولكنهم بالواقع ذئاب أي مسيحيون سيئون. “يأتون اليكم”، أي يأتون الى المسيحيين “البسطاء” فيشكلون خطرا عليهم. نتذكر هنا أنبياء مسيحيين كذبة يحاولون اغراء مسيحيين آخرين. يسوع في متى لا يقوم ضد نشاطهم النبوي أو أعمالهم القديرة في ذاتها. انهم ذئاب خاطفة، انهم خطرون: لأنهم لا يعرفون بسهولة (غير معروفون). فيجب أن ينظر الى “أعمالهم”: هذه هي وسيلة معرفتهم. يسوع المتاوي له عليهم خصوصا أنهم لا يعملون بمشيئة الله فيرتكبون الاثم: حياتهم الأخلاقية لا تنسجم مع اعتقادهم الديني وكيانهم المسيحي.
اذن، نص الانجيل موجه الى جميع مستمعي الخطبة على الجبل: الموضوع هو الفصل عند الدينونة. المعيار عند الفصل ليس أن أكون مسيحيا معمدا، انما هو العمل أو عدم العمل بكلام يسوع. المسيحي الحقيقي هو الذي يعمل بكلام يسوع. ما يهم متى هنا هو: العمل لا الكلام وحده. متى لا يقصد أن نفكر في صنف من الناس البعيدين عنا (اليهود، الفريسيين، الآخرين)، بل يريد أن نفهم أن الأنبياء الكذبة هم أنا. الذين يقولون “يارب يارب” هم أنا … وان كان قول “يا رب، يا رب” ليس أمرا سيئا في حد ذاته، بل قد يكون ضروريا، لكنه غير كاف. لا بد من تطابق لغة الشفاه ولغة الحياة العملية. فمع لغة الشفاه هناك الحاجة الى عمل اليدين، الى الحياة اليومية. والعمل بمشيئة الآب تعني هنا العمل حسب متطلباته للسلوك اليومي. يسوع لم يعطنا بشارته لكي نبني عليها نظريات جميلة، بل لنبني عليها حياتنا. الذي “يعرف” كلامه ولا يعمل به، يبني بيتا بلا أساس. سوف تأتي دينونة الله كمثل العاصفة فتزيل هذا البيت الى الأبد فيتجلى للجميع أنه لم يكن هنا شيء ذو قيمة دائمة قط.
في زمن الصوم نحن مدعوون الى أن نثمر. فالثمرة تبين تصرفنا على مستوى القول والعمل. فلا نحاول الكذب أو التظاهر بما لسنا نحن. لهذا يأتي كلام يسوع قاسيا، فالنبي الكذاب الذي يتكلم من عنده، لا من عند الرب، هو ذئب يجب أن نحذر منه، هو شجرة ينبغي أن لا نأكل من ثمرها.