الاحد الثالث من البشارة “عناية الله تهييء أشخاصا لأعمال عظيمة”
المطران مار ازاد شابا
يختار الله أشخاصا ويهيئهم ليقوموا بأعمال عظيمة ضمن تدبيره الخلاصي، دون أن يقف أمامه حائل أو يعجزه أمر. حتى لو كان أؤلئك الأشخاص غير مؤهلين أو خطأة أو محدودين (شمشون المتقلب-المؤمن، بولس المضطهد-الرسول، يوحنا الناقص- الشاهد)، فان قدرة الله تسخر كل شيء وتستخدم الأشخاص وتوظفهم حسب مشيئة الله، من أجل اتمام العهد وحماية الشعب.
القراءة الاولى (سفر القضاة 13/ 2-24): الشخص الأول هو شمشون نجده في هذه الصفحة الجميلة من العهد القديم، اذ تخبرنا بقصة مثيرة وجذابة، حول الولادة العجائبية لشمشون (المرتبط اسمه بالاله شمش-شمس). فبعد أن يسلم الرب بني اسرائيل الى أيدي الفلسطيين أربعين سنة اثر اقترافهم الشر، يترآءى ملاك الرب لامرأة منوح العاقر دون أن أي ذكر لاسمها ولا لاسم أبيها (دلالة على البعد السري لخبر شمشون)، ليزف لها وعدا صادما: “ستحبلين وتلدين ابنا”. على أن تمتنع عن الخمر والمسكر واللحوم النجسة (حسب العقلية اليهودية). نركز هنا لا على فرح التغلب على العقم فحسب، بل أيضا على طلب التخلي. ولا غرابة أن الأمر يتعلق بالأكل والشرب. فالخمور في حد ذاتها ليست سيئة، ولا لحوم الخنزير. ولكن المهم هنا هو ضرورة أن يعرف الانسان أحيانا كيف يحرم نفسه من شيء ما حتى لو كان مشروعا، ليس لأسباب جمالية أو صحية ولا لنرجسية السيطرة المفرطة على الجسد للتباهي بها. انما هذا الاختيار؛ اختيار التخلي في بعض الأحيان حتى عن شيء مشروع هو نوع من الرياضة الروحية، وطريقة رائعة للحصول على التحرر من الرغبات تهدف الى مجد الله. وشمشون هو أحد المنذورين للرب، والنذير هو الشخص الذي أخذ طوعا نذر التكريس لله. وهذا يتطلب منه عدم شرب الخمر والمسكر أو قص شعره. وطالما كان شمشون مخلصا لهذا العهد، فان الله سوف يملأه بالقوة، ولن يكون هناك أي شيء يمكن أن يتغلب عليه. فنقرأ في الفصول المتعاقبة كيف يمزق أسدا صغيرا بيديه، ويقتل ألف رجل دفعة واحدة بفك حمار، ويرفع أبواب مدينة غزة حاملا اياها على كتفيه الى قمة جبل. القصة لا تنقل اعمالا سحرية كما ظن البعض اذ حسبوا أن قوة شمشون مصدرها شعره الطويل. شعره هو علامة للتكريس ليس الا. أما قوته فهي من تكريسه لله، ومن عهده معه، ذلك هو المصدر الحقيقي لقوته. فكلما كان أمينا لله ومخلصا له كلما كان قويا والعكس بالعكس. قصة شمشون هي رمز لشعب اسرائيل، اذا كان الشعب أمينا لله فلا قوة تقدر أن تقهرهم، وان وقعوا في الخيانة فيتحولون الى لقمة سائغة للأعداء. العبرة التي نستخلصها من قصة شمشون: ان أردنا أن نخدم الله بكل القلب، فلا بد أن نفهم أنه سيكون هناك عدو يسعى دائما لمنعنا من خدمة الله، ويحاول تدمير حياتنا حتى لا نتمكن من الحصول على القوة الروحية الهائلة التي يحصل عليها التلميذ المخلص في حياته. هذه القوة هي التي تساعدنا على قهر الخطيئة والتغلب على الظلمة. وطالما كنا مخلصين في عهدنا مع الرب وحافظنا على ذهننا نقيا، فلن نقهر تماما كما كان شمشون. بل سيكون لدينا قوة سماوية في حياتنا للتغلب على كل شر وكل اغراء. وحتى لو اشتد الصراع، سيقوينا الله بقوة جديدة للاستمرار، طالما لا نستسلم للعدو. “بل إن الرب ينظر الى كل الأرض ليظهر قوته للذين لهم قلب صادق نحوه” (2 أخبار 16/ 9).
القراءة الثانية (افسس 3/ 1-21): والشخص الثاني هو بولس نفسه الذي يعترف بأن الله هو من أعده لمهمة البشارة. في الرسالة الى أفسس التي تبدو أقرب الى الخطاب أو العرض اللاهوتي، وهي مقسمة الى قسمين. يأتي هذا النص الذي نحن بصدده في القسم الأول من الرسالة (الفصول 1-3)، وفيه نجد تعليما عقائديا يستهدف مجتمعا ذا تقاليد يهودية. يوضح مذكرا بأن سر المسيح قد كشف أيضا للوثنيين، وبالتالي فهم أيضا مشاركون في الميراث والوعود لشعب اسرائيل. فبعد أن خلص الله شعبه فردا فردا بنعمته (2/ 1-10)، وبعد أن صالحهم مع نفسه وبعضهم مع بعض عبر ذبيحة المسيح وموته (2/ 11-22)، ها هو يوحدهم الآن في المساواة (لا يفتخر اليهودي على الوثني) في جسد واحد، في الكنيسة التي هي شعب الله، وفيهم يقيم روح الله. وبولس هو أسير يسوع المسيح ولا يستطيع أن ينفصل عنه. وتحمل كل هذا رغم المعارضة القاسية التي عرفها. وهو يعرف أن ما حصل عليه هو نعمة من الله، وكل ما عمله كان بموهبة نعمة مجانية أعطيت له وهو الذي كان من قبل مضطهدا للكنيسة. ويكرر بولس مرارا دهشته من أن الرب أعده لهذا العمل الرفيع: أعطاه نعمة جعلته مبشرا، وحامل الانجيل. ولكن هذا لا ينفي مسؤوليته في حمل البشارة، مشددا على دوره في مخطط الله، فيقدم أوراق اعتماده. والله بارادته هو الذي يعهد الى بولس بخدمة هي لفائدة أهل أفسس وجميع الذين سمعوا كرازة بولس. من هنا، فان نعمة الله التي تفعل منذ بدء الكون وحتى النهاية، تفعل اليوم أيضا في الكنيسة وفي جميع المؤمنين. نتذكر أن بولس تلقى الانجيل بطريقة خاصة جدا، لم يستمع الى عظة من الرسل الآخرين، بل تلقاها من الله مباشرة. لذلك يستطيع أن يقول أنه عرف السر بالوحي. ما هو هذا السر؟ انه تدبير الله الخلاصي وتحقيق رغبته في خلاص الناس. والعنصر الأساس في هذا السر هو انه بموت المسيح وقيامته، جميع الشعوب مدعوة الى أن تكون مثل شعب اسرائيل، الشعب المختار. فهم اذن يشتركون في الميراث نفسه (الخلاص)، ويشكلون الجسد نفسه (الكنيسة)، وبفضل الاصغاء وقبول بالانجيل ينالون تحقيق كل وعود الله، لذلك، فان المسيح هو المركز الذي يتجه اليه كل التاريخ، سواء الشعب المختار او الشعوب الاخرى.
القراءة الثالثة (لوقا 1/ 57-80): والشخص الثالث هو يوحنا الذي يعد الطريق امام مجئ يسوع المخلص. فميلاد يوحنا، بداية لاكمال البشارة، كلمة الله تصبح واقعا، وعد الله يكتمل. أهل اليصابات (اليشواع) وجيرانها يفرحون بمولد يوحنا. بمولده تبدأ صفحة أولى من عهد جديد، زمن جديد. اسم يوحنا؛ يعني: الله يحن، حنان الله. لقبه (المعمدان) علامة لدوره في الخلاص. يوحنا نبي، رسول أمام وجه المسيح، هو ليس النور، لكنه شاهد للنور. أبواه انتظرا طويلا، الى أن وصلا الى هذا اليوم. زكريا، عرف رسالة ابنه، فتركه لكي يذهب الى البرية، ويعيش وينمو هناك، رغم انتظاره الطويل لمولد الطفل. يوحنا، يكرز قائلا: “أن الله سيعطي غفران الخطايا بالمعمودية”. وختان الولد في الكتاب المقدس، كان علامة عهد بين الله وابراهيم. واليهود ما زالوا متمسكين بهذه العادة. معنى الختان الروحي كان تقديس الجسد، تكريسه لكي يكون علامة للايمان. أما مع يسوع، فالختان يصبح ختان القلب، أي تقديس القلب وتكريسه للرب، لكي يعيش الانسان حياة المحبة. ومار بولس يقول: الختان وعدم الختان لا ينفع شيئا، لكن الايمان الذي يعمل بمحبة. هو يتحدث وينقل لنا من الكتاب المقدس صورة عن سارة (السيدة)، وهاجر (الأمة) زوجتي ابراهيم. لكي يظهر هل نحن من أولاد السيدة أم من الأمة. دخل ابراهيم على جاريته هاجر (بناء على طلب سارة) لكي يقيم نسلا، واعتقد أنه يكمل عهد الله. الله وعد ابراهيم أن يعطيه ابنا، لكي يقيم له نسلا كرمل البحر. لكن الله يتأخر في تكميل وعده هذا، فزمن الله ليس كزمننا. وعندما يتأخر الله، نبدأ نحن بالاختيار، بينما بذلك يريد أن نهيأ قلوبنا عندما يتركنا ننتظر. هو يقدر أن يكمل وعده في لحظة، وبطرقه التي لا نفهمها نحن (اشعيا). لذلك يجب أن نفهم ما يريده الله على الدوام. فعندما يتأخر، علينا أن نصبر، لا أن نعمل نحن عوضه. هو يريد أن يكون وعلى الدوام، الأول في حياة ابراهيم، عندما طلب منه أن يضحي بابنه الوحيد اسحق. كذلك تدخل الانسانية هذا الامتحان في كل وقت. لنسأل أنفسنا نحن اليوم، هل الله هو الأول في حياتنا؟ سؤال مطروح على كل واحد منا. لقد اعتمد المسيح على يد يوحنا المعمدان. ونحن مسيحيو اليوم، اعتمدنا معمودية مسيحية، كرسنا أنفسنا وقلوبنا لله لكي نكمل ارادة الله، نطلب أن يفتح عيوننا كي نراه ونستسلم بين يديه كي نصبح أحرارا ونختار الله، أن يكون هو حبنا الأول، ونعطيه المكان اللائق به في حياتنا. انجيل اليوم يرسم صورة لجوهر رسالة يوحنا الاستعدادية لمجيء المسيح. ولادة يوحنا تحضير لمجيء المخلص. رسالته نموذج رسالتنا في تعريف الناس بالمسيح. لذا علينا أن لا نستغل اسم المسيح للافتخار فقط، انما أن نحاول تجسيد روحيته وتعليمه ليعرفه العالم. فلنستعد ونهيأ قلوبنا لحلول المسيح فيها، وذلك بالتوبة والرجوع عن شرورنا، والخروج عن أنانيتنا بانفتاحنا على الآخرين.
بايجاز: أمام استمرار الله أمينا لعهوده معنا ورغبته العظيمة للسكنى بيننا، لا بد أن نتجاوب معه بالعيش بطريقة تتوافق ومشيئته. ليس بالاتكال على أنفسنا، فغالبا ما وبسهولة نقع أسرى الشرور والاغراءات، انما بالاتكال على قوة الله من خلال الروح القدس. هكذا يمكننا ببساطة أن نكون أمناء في الحفاظ على عهد التلمذة ونخدم الله بدلا من خدمة أنفسنا.
من طقسنا: شورايا صلاة المساء (الاحد الثالث من سوبارا) مزمور 8/ 4-6
“ما الانسان حتى تذكره؟ ابن آدم حتى تفتقده؟ ولو كنت نقصته عن الملائكة قليلا، بالمجد والكرامة كللته، سلطته على أعمال يديك، وجعلت كل شيء تحت قدميه”.