ما جمعه الله… قد يفرقه القانون! قصة قصيرة
المحامي
افرام فضيل البهرو
استيقظ جورج من نومه فزعا، وفرائصه ترتعد والعرق يتصبب منه وهو يتلفت مذعورا، وبعد ان تأمل قليلا، تنفس الصعداء وترك سريره وتوجه كالمجنون الى غرفة والدته التي كانت جالسة أمام الموقد، وارتمى في حضنها واضعا راسه على صدرها، وهي بدورها حضنته وقبلت راسه ثم مسحت عرق جبينه والدهشة بادية على محياها، ثم سألته.. (ما بك يا عزيزي؟؟؟ أراك مرتبكا وخائفا !!! عسى ان يكون في الأمر خيرا؟؟؟) سكت جورج قليلا ثم رفع راسه واخذ يتفحص وجه أمه والدموع تسيل من عينيه، واخذ يقبل يديها بحرارة وابتسامة حزينة تطغى وجهه ثم قال: (لقد رأيت حلما مزعجا !!!) ثم استدرك (لا لا… لم يكن حلما، بل كابوسا مرعبا ثقيلا جثم على صدري وكاد ان يخنقني..) فردت عليه وهي تضحك بمليء شدقيها: (ومتى كان ابني المهندس والمثقف يولي لأحلامه هذا الاهتمام؟؟؟ هيا اروي لي حلمك… عفوا اقصد كابوسك…)، ثم شرع قائلا: (حلمت وكأنني امشي وألهو بين أشجار باسقة في بستان جميل، فيه من الفواكه ما تشتهيه الأنفس. وكان السكون والهدوء الذي يخيم المكان لا يشقه سوى تغريد العصافير والبلابل… عندئذ لمحت تفاحة شهية، فقطفتها بهدوء وما ان همت بتناولها، حتى ظهر فجأة امامي، وحشا كاسرا.. يتقدم نحوي والشر يتطاير من عينيه، فاتحا ثغره القبيح وينفث أنفاسا كريهة ومكشرا عن أنيابه المرعبة ويلوح لي بمخالبه الحادة التي كانت تشع بريقا، وكأن لسان حاله يقول لي: (اترك هذه التفاحة، فهي ليست لك…) ثم أطلق زعقه مخيفة اهتزت الأشجار من شدتها.. وأسكتت أصوات العصافير والبلابل.. وخيم سكونا رهيبا على المكان، ورغم محاولتي الاحتفاظ بالتفاحة، الا انه انتشلها من يدي بكل وحشية…ثم استيقظت من النوم…) ضحكت الوالدة طويلا… وقالت من باب المزاح: (يظهر ان كل مصائب البشرية تأتي من التفاحة) … ثم قالت: (لا تشغل بالك بهذه الخزعبلات… فهو مجرد حلم… وألان هيا لنتناول الفطور، فليس أمامنا وقت طويل لإنجاز أعمالنا، ولأني اتصلت بأصدقائك وأخبروني بان قاعة الأعراس جاهزة، وان عروستك جوليت ستنتظرك بعد ساعات، ويجب ان تذكر بان هذا اليوم سيكون أجمل أيام حياتكما….).
وفي المساء.. توجه العروسان الى الكنيسة ووقفا أمام الله والكاهن والجماعة وقالا:(نعم… نقبل بهذا الزواج) وارتفعت أصوات الهلاهل والزغاريد…أما والدة جوليت.. فالدموع لم تبارح عيناها من شدة الفرح بزواج ابنتها الوحيدة والتي عانت كثيرا في تربيتها بعد ان هجرها زوجها، واشهَرَ اسلامهِ في الوقت الذي كانت ابنتها ما زالت في الأشهر الاولى من عمرها..
وبعد عدة ايام… توجه العروسان الى المحكمة لتوثيق عقد الزواج رسميا، وكإجراء روتيني، طلبت المحكمة منهما صورة قيود عائلتيهما للتأكد من موقفهما، وفي مديرية الأحوال المدنية، كان العروسان واقفين أمام المدير الذي كان يتفحص السجل المدني، وبين الفينة والاخرى يختلس النظرات إلى العروسين، وهما يبادلانه النظرات باستغراب ودهشة… ثم استعدل المدير على مقعده الدوار.. ووضع نظارته جانبا وسكت للحظات ثم نظر إليهما وقال: (يؤسفني ان اقول لكما بان هذا الزواج لا يمكن ان يتم…!!!!!) نظر العروسان الى بعضهما بدهشة.. ثم سأل جورج: (لماذا يا حضرة المدير؟؟؟ اعتقد ان هناك خطأ في الموضوع !!) رد المدير: (كلا لا يوجد أي خطأ، وبصراحة، لا يجوز ان يتم هذا الزواج من الناحية القانونية، لأنك مسيحي والفتاة مسلمة..) فابتسم جورج وقال: (يا أستاذ.. المْ اقل لك ان هناك خطأ في الموضوع؟؟؟ لأني اعرف جوليت منذ نعومة إظفارها… وهي تعيش مع امها المسيحية، ولم تترك كنيستها يوما، إضافة إلى كوننا نحن الاثنين معا أعضاء في جوقة الكنيسة… فكيف تقول انها مسلمة؟؟؟ رد المدير: (أرجوك ان تفهمني… لأني لم آت ِ بشيء من جعبتي، ولكن هذا ما مدون في السجل المدني لعائلة الفتاة، دعوني اقرأه لكما:)) تم تأشير إسلام القاصر ((جوليت)) تبعا لإشهار والدها الإسلام، وذلك استنادا لأحكام الفقرة 3 من المادة (21) من قانون الأحوال المدنية رقم 65 لسنة 1972…)) ولهذا السبب لايجوز ان يتم هذا الزواج).
لم تتمالك جوليت اعصابها وكادت ان تنهار مغشيا عليها، لولا ان جورج اسندها، واجلسها على كرسي وأسرع بكاس ماء، واخذ يرش على وجهها… وبعد لحظات استفاقت من غيبوبتها وأجهشت بالبكاء وهي تندب حظها العاثر، ونظرت إلى زوجها وروعها يتفطر من الحزن وقالت له بصوت مخنوق: (أرجوك.. لا تتركني.. لأني لم اعرف او احب شخصا غيرك.. ولانك زوجي، وابي، وأخي، وكل شيء…) وهو الأخر لم يتمالك نفسه وانفجر بالبكاء رغم محاولته إخفاء ذلك وإظهار رزانته وتماسكه أمام حبيبته التي استنجدت به في محنتها.. فامسك بيدها وقبلها وهو يقول: (.. لا اعتقد بان هناك قوة في العالم تستطيع ان تفرق بيننا.. فما جمعه الله لا يفرقه إنسان…) ثم همش المدير بتلك المعلومات على معاملة الزواج وقال: (ربما يكون للمحكمة راي اخر…).
وبعد ان مثلا العريسان امام القاضي، نظر إليهما وقال: (للأسف لا يجوز اجراء هذا الزواج… واعتقد بأنكما عرفتما السبب.. حيث تم تأشير اسلام (جوليت) قبل عشرون سنة عندما كانت قاصرا بسبب إسلام والدها، وكان بإمكانها ان تراجع المحكمة وتطلب العودة الى ديانتها السابقة خلال سنة من تاريخ بلوغها سن الرشد (18 سنة) ولكونها لم تفعل ذلك فقد سقط حقها بذلك وستبقى ديانتها مسلمة، وان المادة (17) من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 (المعدل) تنص على: ((… يصح للمسلم ان يتزوج كتابية (مسيحية او يهودية) ولا يصح زواج المسلمة من غير المسلم…)).. وليس أمامكما الا إلغاء هذا الزواج لأنه مخالف للقانون.. سأل جورج: سيادة القاضي… وما هو الحل برأيكم؟؟؟، خاصة واننا عقدنا زواجنا في الكنيسة وهو زواج صحيح وبالنسبة لنا يعتبر هو الأهم لانه من اسرار الكنيسة المقدسة وتم في حضرة الرب، وان توثيقه في المحكمة هو من الأمور القانونية الشكلية، كما انه لا يحق لا للكنيسة ولا لاي كان ان يلغى زواجنا هذا لان رابطة الزواج هذه ستبقى قائمة بيننا… فما جمعه الله لا يفرقه انسان..) فرد عليه القاضي قائلا: على كل حال هذه مشكلتكما… ويجب ان تعرفا جيدا، بان إجراء عقد زواج خارج المحكمة او عدم توثيقه فيها، يعرضكما للمسؤولية القانونية…) وكل هذا الحوار كان يجري والدموع لم تفارق عينا الزوجة المنكوبة، ونظر جورج الى زوجته وقال لها: (ارجو ان تهدئي… لابد ان نجد حلا لهذا الموضوع… وليعلم الجميع، باني لن اتخلى عنك،… لان ما جمعه الله لايفرقه انسان ولا القانون وليذهب هذا القانون الى الجحيم……..