الأحد الأول من الصوم “صوم يسوع وتجاربه”
الأب زيد حبابه
«ثُمَّ صَعِدَ الرُّوحُ بِيَسُوعَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، لِيُجَرَّبَ مِنْ قِبَلِ إِبْلِيسَ. 2وَبَعْدَمَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيراً، 3فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ، فَقُلْ لِهَذِهِ الْحِجَارَةِ أَنْ تَتَحَوَّلَ إِلَى خُبْزٍ!» 4فَأَجَابَهُ قَائِلاً: «قَدْ كُتِبَ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ!» 5ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى حَافَةِ سَطْحِ الْهَيْكَلِ، 6وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ، فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ قَدْ كُتِبَ: يُوْصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَيَحْمِلُونَكَ عَلَى أَيْدِيهِمْ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ قَدَمَكَ بِحَجَرٍ!» 7فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «وَقَدْ كُتِبَ أَيْضاً: لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلهَكَ! »8ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ أَيْضاً إِلَى قِمَّةِ جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَعَظَمَتَهَا، 9وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هَذِهِ كُلَّهَا إِنْ جَثَوْتَ وَسَجَدْتَ لِي!» 10فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ يَاشَيْطَانُ! فَقَدْ كُتِبَ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ، وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ! »11فَتَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذَا بَعْضُ الْمَلاَئِكَةِ جَاءُوا إِلَيْهِ وَأَخَذُوا يَخْدِمُونَهُ. »(متى 4/1-11)
يكتب مار متى إنجيله إلى مسيحيين من أصل يهودي، واليهود يعتقدون بأن للكتب المقدسة أصلا إلهيا مباشرا وكان التعلق بها وقراءتها المتواصلة واستيعابها العميق تؤثر تأثيرا عميقا في حياة الجماعات اليهودية. ويسوع وتلاميذه نظروا إليها النظرة نفسها، ولهذا نلاحظ هناك استشهادات كثيرة بالكتب والأنبياء، مثلا: “مكتوب”(متى4/4)، “ليتم ما قيل من الرب بالنبي”(متى 21/4 ). وهذا يعني إن الشريعة حية في تلك الجماعة التي يوجه متى إنجيله لها، ولكن يسوع يعطيها صبغة جديدة ويبلغ بها إلى كمالها. إن النصوص المستشهد بها لا تطمح إلى إثبات الوقائع أو إلى شرحها أولا، بل إلى إضفاء الطابع المقدس الإلهي عليها، فان التدبير الإلهي يتم في شخص يسوع وأعماله، وهكذا يواصل الإنجيلي عمل يسوع فيدخل رسالة البشارة في تاريخ الخلاص. إن النص الذي نحن بصدده يبين الأمانة التي عاشها يسوع ابن الله مع أبيه السماوي من خلال مواجهته التجارب في البرية. فبعد أن حل الروح القدس على يسوع في يوم عماذه، قاده الروح إلى البرية. والبرية حسب الكتاب المقدس هي مكان قفر تسكنه الشياطين فيها يتم الصراع بين الإنسان والشيطان، بين الخير والشر.
عندما خرج الشعب اليهودي من مصر عاش في البرية 40 سنة وهي فترة طويلة كان فيها اختبارات كثيرة لعلاقة الشعب مع يهوه، سقوط ونهوض. فرأى اليهود أن رحلة الشعب في البرية هي فترة امتحان للشعب على ما في قلبه من استعداد وإيمان. ويسوع أيضا في بداية رسالته يبقى في البرية مدة 40 يوما يواجه التجارب الكبرى التي سقط فيها الشعب كما جاء في سفر الخروج. يمتحن يسوع على ما في قلبه من استعداد وأمانة تجاه رسالته المسيحية كابن حبيب لله (متى3/17)، لكن مسيرة الشعب التي فشلت في الامتحان في ما مضى، نجحت اليوم في شخص يسوع المسيح، فانتصر على الشراهة واللذة (متى4/3) التي سقط فيها اسرائيل (تثنية3/8) والكبرياء (متى4/6) مجددا خبرة إسرائيل الذي جرّب إلهه أحيانا كثيرة (خروج17/2-7) والطمع (متى4/10) التي سقط بها إسرائيل فاستبدل إلهه بآلهة أخرى (خروج 20/5). فقد قرر بحرية أمام هذه الخيارات (التجارب) المعروضة عليه فثبت ظافراً.
إن لصوم يسوع في البرية وتجربته من قبل الشيطان وانتصاره عليه، دور مهم في تدبير الخلاص حيث دمج يسوع في شخصه كل شعب الله وحمل رسالته وأخذ دعوته على عاتقه لأجل البشرية، فانتصر على التجارب التي سقط فيها الشعب وبذلك طهر شعبه من ضلاله، وهذا ما تعكسه لنا إحدى تراتيل صلاة (موةبا): الصباح للأحد الأول من الصوم” الخليقة كلها ترتل التسبحة والشكر للذي بصومه المجيد أنقذها من الضلال وخرج إلى البرية للقتال مع الشيطان وانتصر، وطهّر جنس المائتين، وهو الآن في العلى يتضرع لأجلنا من الآب الذي أرسله إلينا ” (الحوذرا ج2، ص57).
واليوم تعلمنا تجارب يسوع بأن على الإنسان أن يكون له مبدأً في الحياة كما كان ليسوع، فقد اختار يسوع في بداية رسالته أن يكون أمينًا لله ومبدؤه هو أن يعمل بمشيئته التي تتلخص بمحبة الله والقريب، لقد رفض أن يكون مبدؤه الشراهة واللذة أوالكبرياء أوالطمع.
إن دور يسوع اليوم ورسالته متجسدان في كنيسته التي هي جسده وعليها أن تحمل رسالته إلى العالم أجمع وهذا دور أبنائها حيث كل معمذ مدعو إلى حمل كلمة الله إلى العالم كما كان إسرائيل مدعوًا. فالسير في الحياة هو دائمًا السير في البرية حيث يلاقي الفرد والكنيسة مصاعب عديدة وتجارب متنوعة يجب عليهما أن يجتازاها حتى يدخلا إلى أرض الميعاد. إن فترة الصوم الكبير هي فرصة لنا لكي نختلي نحن أيضًا في برية قلبنا حيث التساؤلات والصراعات بين الخير والشر بين صوت الله وصوت العالم وبهذا نستعد ونتهيأ لكي نستطيع أن نشارك بفصح يسوع المسيح أي بموته وقيامته، حيث نموت عن الشر ونقوم من جديد لنحيا كأبناء لله.