الاستنساخ
الباب الادبي
+المطران ازاد شابا
مقدمة
حالما يسمع المرء بكلمة الاستنساخ، يتذكر “دوللي” تلك النعجة التي ولدت في شباط 1997 في مختبر في معهد رولين في مدينة ادنبرة عاصمة اسكوتلندا. وقد جاءت ردود الافعال على تلك التجربة العلمية قاسية من قبل رجال دين وحتى من بعض السياسيين في العالم. فقد اثارت تلك المحاولة خوفهم وقلقهم، ومبعث ذلك ان نتيجة هذا الاستنساخ الجيني للحيوان ستقود بسهولة الى استنساخ الانسان الذي ينتمي بايولوجيا الى نفس الفئة، وقد كان خوفهم في محله، فبعد سنوات قليلة، وبالتحديد في 29 ايلول 2004 تقدم فريق يقوده العالم يان ويلموت المشرف على المختبر المذكور، بطلب الى ادارة الخصوبة البشرية وعلم الاجنة، للسماح باستنساخ اجنة بشرية لأغراض علاجية. فأشاع الطلب جدلا اخلاقيا حادا في الاوساط الدينية والسياسية والتشريعية، واثارت تساؤلات كثيرة ومختلفة، هل من حدود للعلم؟ هل ثمة مخاطر من استنساخ الانسان؟ ما هي تخوفات الدين؟ ماهو راي الكنيسة الكاثوليكية من ذلك؟ لماذا تعرقل هذه الاخيرة مسيرة العلم؟
الاستنساخ
هو عملية تناسل او توالد لا تزاوجي، اي انتاج فرد مماثل (من الناحية البيولوجية) للفرد البالغ، يحمل كل صفاته الوراثية. والاستنساخ هو تكون كائن حي كنسخة مطابقة تماما من حيث الخصائص الوراثية والفيزيولوجية والشكلية لكائن حي اخر. إذا فالاستنساخ هو توالد لا جنسي، لا يحدث فيه اخصاب لبويضة الانثى بنطفة الذكر .1
ان خبر ولادة النعجة دوللي قد اخذ مداه الواسع لدى الناس واستوقفهم طويلا ونال من اهتمامهم، لكن الخبر الاخر الذي هز العالم كله، كان ولادة الطفلة حواء، اول طفلة مستنسخة عام 2002، رغم الغموض الذي لف هذا الخبر، حيث لم يتم تثبيته وكشف تفاصيل عنه.
معلوم ان ولادة دوللي وحواء لم يأتي خلال ليلة وضحاها بل سبق ذلك محاولات وتجارب واختبارات كثيرة ومنذ فترة طويلة لا تقل عن 100 سنة، اجريت خلالها نحو 300 محاولة، لم تنجح ولا واحدة منها. وحتى دوللي نفسها شاخت وهرمت وهي بعمر الشباب، فقتلت بحقنة من أعلن عن ولادتها، واحرقت جثتها خوفا من انتشار الامراض. ويقول كيفن ايجان من معهد ماساشوست للتكنولوجيا في امريكا انه درس كبير للعبرة من موت دوللي وشيخوختها.
راي الكنيسة الكاثوليكية في البحث العلمي
غالبا ما تتهم الكنيسة بانها محافظة ومتشددة بل ومعرقلة لمسيرة العلم والتطور. وهذا واضح وجلي في كثير من مواقفها ازاء بعض الاكتشافات العلمية، وسبب ذلك يعود الى الخوف من تحول العلم الى “إله” جديد ان ينصب ذاته مكان الله. الكنيسة لا تخاف لا من تقدم العلوم ولا من تطور الطب. ولكنها ترفض أن تتسلط العلوم والطب على الإنسان، فيصير الإنسان عبدا لها. لقد خلق الله الإنسان حرا وسيدا ليتسلط على الأرض (تك 1: 26-28)، فمن غير الممكن أن يصبح عبداً لإلهة يصنعها بنفسه.
في معرض تطرقه الى اهمية العلم ودوره المهم في الحياة يشير تعليم الكنيسة، الى امكانية ان تسهم الاختبارات العلمية والطبية والنفسية على الاشخاص او الفئات البشرية، في شفاء المرضى وتقدم الصحة العامة.2
كما وتثمن الكنيسة منافع هذه البحوث وتقيمها جدا، لكن ذلك لا يعني ان العلم وحده قادر على اكتشاف اعماق الانسان وروحه: “ان البحث العلمي الاساسي، كالبحث التطبيقي، امران يدلان على سيادة الانسان على الخليقة. وللعلم والتقنية منافع ثمينة عندما يوضعان في خدمة الانسان، ويعززان نموه الكامل لفائدة الجميع. ولكنهما لا يستطيعان ان يدلا وحدهما على معنى الوجود والتقدم البشري. فالعلم والتقنية جعلا لأجل الانسان الذي يستمدان منه أصلهما ونموهما. وهما لذلك يجدان في الانسان وقيمه الاخلاقية الدليل على غايتهما ووعي حدودهما”.3
يبقى الله وحده مانح الحياة، والحاجة هي اليه فقط، ولا بد ان يكون هو في المقام الاول وفي المركز، وكل شيء يجب ان يتماشى وارادة الله. من هنا فان العلوم يجب ان تساعد الإنسان على ان يختار الله غاية نهائية له.
إن الكنيسة لا ترفض أبداً التطور العلمي، بل على العكس إنها تطلب من الباحثين أن يساعدوا الإنسان في مجابهة التحديات التي يواجهها في عالمنا الحالي كي يصل إلى حلول علمية والقضاء على الأمراض المستعصية من أجل عيش أفضل لكرامة الإنسان والكون بأجمعه. هذا ما يؤكده البابا يوحنا بولس الثاني في نهاية رسالته “الإيمان والعقل”: “أتوجه إلى رجالات العلم الذين يزودوننا، من خلال أبحاثهم، بمزيد من التعرف على الكون في مجمله، وعلى مقوّماته من الأحياء والجمادات في مختلف أنواعها وثري أصنافها، وفي بناياتها الذرية والخليوية المعقدة. لقد قطعوا في الطريق التي سلكوها، وبخاصة في هذا القرن، مراحل لا تزال تثير فينا الدهشة؛ وفيما أعبر عن إعجابي وتشجيعي لهؤلاء الشجعان البواسل، رواد البحث العلمي الذين تدين لهم البشرية بجزء كبير من تطورها الراهن، أشعر بواجب حضّهم على مواصلة جهودهم مع الاستمرار دوما في الخط الحكمي الذي تنضم فيه المكاسب العلمية والتكنولوجية إلى القيم الفلسفية والمناقبية التي يتجلى فيها الشخص البشري في مزاياه الجوهرية”.4
موقف الكنيسة الكاثوليكية من الاستنساخ
فيما يخص الاستنساخ، تؤكد الكنيسة ان عملية الاستنساخ ينبغي ان لا تتجاوز مجال استنساخ الصفات الوراثية والجسدية للفرد، ولا يجوز ان تكون لها تأثيرات على الناحية السايكولوجية والثقافية والبيئية. فالكائن الناتج عن عملية الاستنساخ لا يعيش الامراض والحوادث التي عاشها المستنسخ عنه. ولا يتحدث اللغات التي يتحدثها، ولا يملك النفسية والطبع والمزاج نفسه. والاهم من كل هذا، هو ان النفس الروحية، لا يمكن ان تستنسخ ابدا، لأنها نفس روحية يخلقها الله مباشرة، ولا يمكن ان تكون ثمرة اتحاد الزوجين، ولا نتيجة اخصاب اصطناعي او استنساخ.5
وبما ان الانسان مخلوق على صورة الله ومثاله، ومرتبط بالله، فان الكنيسة ترى في عملية الاستنساخ انتهاكا لحقوق الانسان وكرامته. اين كرامة المولود وحقه في الولادة من ثمرة حب زوجي من ابيه وأمه، لا من عملية استنساخ؟ واين هي كرامة هذا المولود حين يكتشف انه صنع على مثال اخر، او استنسخ لصورة أحدهم؟ لذلك لا بد ان تناقش مقاييس كرامة الانسان قبل كل ذلك، لان المقياس الحقيقي الذي به تقاس الكرامة الشخصية يجب ان يكون مقياس الاحترام والمجانية والخدمة، وليس المنفعة والتجارة، فالإنسان لا يساوي او يقاس بما يملك بل بما هو عليه.6
مخاطر وسلبيات الاستنساخ؟
هناك مخاوف ومخاطر حقيقية من عملية الاستنساخ وانعكاسها على الانسان. بيولوجيا، يريد الاستنساخ ان يجعل من تمايز الذكر والانثى مجرد فضيلة وظيفية مرتبطة باستعمال بويضة منزوعة النواة. فلا ضرورة لوجود الذكر والانثى في الجنس البشري. وتصبح الانثى هي المصدر وسبب الوجود، فيتحول المجتمع الى مجتمع انثوي. اخلاقيا، ان تقنية الاستنساخ تعزل الانجاب عن سياقه الطبيعي الانساني، اي العمل الزوجي. وسيصبح بإمكان الزوجين اختيار الصفات الوراثية التي يرغبونها، عن طريق استئجار خلايا الاشخاص الذين يرغبون في استنساخهم، وعن طريق استئجار النطفات المجمدة بطريقة الاستنساخ، وكأنهم في اسواق تجارية. من جانب اخر ستتمكن النساء السحاقيات من الانجاب دون الحاجة الى الرجال، من خلال خلية من سيدة تلتقي مع بويضة من صديقتها التي تعاشرها جنسيا، وقد تتبادلان الادوار، لا غرابة في ذلك، فقد صرحت عالمة بيولوجية امريكية، انه في حال نجح الاستنساخ واتقن، سيصبح بإمكان النساء الاستغناء عن الرجال. اما إذا ارادت مولودا ذكرا فإنها ستشتري خلية من رجل، دون الحاجة الى اقامة علاقة جنسية معه. ناهيك عن استغلال المرأة، اذ تصبح مجرد مانحة لبويضة، ويتحول رحمها الى مجرد اناء لتلك العمليات، والأخطر من ذلك ان الابحاث قد تتجه نحو انشاء ارحام صناعية. لاهوتيا، الشخص المستنسخ سيشعر انه نسخة عن شخص اخر، فلا استقلالية ولا خصوصية عنده. وقد لا يحمل اي صفات متشابهة لوالديه. وارحام الامهات هذه الاماكن المقدسة، حيث فيها يتم التقاء الجهد والحب البشري وهبة الله، بينما في الاستنساخ تمسي الارحام مجرد ادوات ومخازن ومصانع للتوليد، مجردة من كل معاني الامومة والاخصاب الطبيعي والعمل الزوجي الذي خلقه الله. فالاستنساخ سيحول دون كون الطفل المولود عطية وهبة من الله. وبالتالي الغاء الله واكتفاء الانسان بنفسه.7
هل من حدود للعلم في عملية الاستنساخ؟
دائما ما يؤكد العلماء ان كل اكتشاف يحمل في طياته مخاطر كثيرة، الا انه يحمل في الوقت عينه، فوائد جمة تصب وخير البشرية. ففي صدد الاستنساخ استبشر العالم خيرا بعد نجاح عملية دوللي، لأنها ستفتح بابا واسعا امام استنساخ الحيوانات المهددة بالانقراض، او استنساخ اعضاء حيوانية قريبة لأعضاء الانسان جينيا، او تحسين انتاج الحليب وغيره من المشتقات الحيوانية وغير ذلك. الا ان المخاوف تكمن فيما إذا حصل الاستنساخ البشري، فيتحول عندئذ الانسان الى قطع غيار يستخدم عند الحاجة فقط ثم يرمى الى مكب النفايات. ومن الجدير بالإشارة هنا، ان ثمة بدعة قائمة في فرنسا وسويسرا وكندا، تدعى الرائليين، تسعى الى خلق اناس عباقرة ليحكموا الارض. وينادي اصحابها بنوع من الانتقاء الطبيعي للحصول على عرق نخبوي!
هل يعني هذا التصدي للاستنساخ وايقافه نهائيا؟ كلا، انما ينبغي الانتباه، وتجنب التمادي والانحراف الممكن في بعض التقنيات التي تحط من كرامة الانسان وتجعله اداة للتجارب. من هنا لا بد للباحثين ان يتنبهوا للقواعد الاخلاقية المتبعة، فلا ينتهكوا الانسان في قيمته وكرامته، فليس كل علم يمكن ان يكون في سبيل خير الانسان.8
خاتمة
مع ان التجارب والبحوث هذه ما زالت في بدايتها، لكن الحيطة والحذر مطلوبان اليوم قبل ان تنحرف الامور وتأخذ منحى اخر، ساعة لا ينفع الندم. إذا كانت الدول الكبرى ترفض تقديم الدعم المالي للاستنساخ البشري، وإذا كان البرلمان الاوروبي قد قرر معتبرا الردع الجزائي كرد وحيد للحد من استنساخ كائنات انسانية، مؤكدا لا شرعية الاستنساخ الانساني، فكم بالأحرى من واجب الكنيسة ان تتصدى بكل حزم لمثل هذه المحاولات المهينة لكرامة الانسان، وجعله غرضا تقنيا لا غير، ووسيلة يستخدم من اجل منفعة. على الجميع اتخاذ موقف انساني مسؤول، سواء الدول والحكومات او المنظمات او الاديان وحتى المجتمعات العلمية نفسها العمل على الحفاظ على الانسان وكرامته.
المصادر
- مجموعة مؤلفين، اخلاقيات طب الحياة، دراسات اخلاقية-4، المكتبة البولسية، جونيه 2006، ص149
- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، المكتبة البولسية، جونيه 1999، رقم 2292
- المصدر السابق 2293
- رسالة جامعة في الايمان والعقل، رقم 106
- مجموعة مؤلفين، ص156
- المصدر السابق، ص157
- المصدر السابق، ص151-154
- جوزف معلوف، ص 142-144