فضيلة العدل
الفضائل الادبية
فضيلة العدل
+المطران ازاد شابا
تمهيد
ياتي ذكر العدل عموما بعد الفطنة، ولكن هذا له معنى كرونولوجي اكثر منه جوهري، فالعدل في حد ذاته هو اهم من الفطنة. فبينما تقتصر الاخيرة على التمييز، فان العدل يصل الى قلب العلاقة الشخصية. وتمارس هذه العلاقة الشخصية في عدة اتجاهات: تجاه الذات، تجاه الجار وتجاه الله. فالعدل اذا ينظم العلاقات بين الناس.
واذ يتم التأكيد على كون فضيلة العدالة فضيلة صعبة ومضنية، لا يمكن القول او الجزم ان اي فضيلة من الفضائل الاخرى هي سهلة الممارسة، فجميع الفضائل صعبة الاكتساب. لكن اهمية الفضيلة التي نحن بصددها تكمن في ان الانسان يمكن ان يموت من اجلها، ومثال ذلك، القاضيان جوفاني فالكوني وباولو بورسيللينو من باليرمو الايطالية اللذين قضيا عام 1992 على يد المافيا الايطالية، دفاعا عن العدالة، انهما صورة حية لكل من يدفع ثمنا غاليا من اجل تحقيق العدالة، ومن خلال هذا نكتشف قيمة واهمية هذه الفضيلة.
ما هي فضيلة العدل؟
العدل هو بحسب توما الاكويني، الموقف الاساسي الثابت والراسخ لإعطاء كل فرد ما يحق له (الخلاصة اللاهوتية 2، 2 سؤال 58، 1). العدل هو الفضيلة الاهم على صعيد الاخلاق الاجتماعية. ان فضيلة العدل هي الشرط الضروري لبناء السلام، كما اكد القديس يوحنا بولس الثاني: “حيث لا توجد عدالة لا يوجد سلام، لان الظلم هو فوضى، وكلمة النبي اشعيا تظل صحيحة دائما: ”Opus iustitiae pax”، السلام هو عمل العدل”. ومن دون فضيلة العدل، سينهار العالم الاخلاقي في جحيم الفوضى والاضطراب والطغي. العدل هو الاعتراف بالتسلسل الهرمي للقيم وتطبيقها، هو معرفة تمييز الخير الاعظم من الاصغر، وما هو خير للأخر وليس للذات حسب.
العدل في الكتاب المقدس
اذا كان مصطلح (الفطنة) نادرا في الكتاب المقدس، فان مصطلح (العدل) هو احد اكثر المصطلحات استخداما في الكتاب المقدس. على سبيل المثال نجد في العهد القديم:
“لا تجوروا في الحكم، ولا تحاب وجه الفقير ولا تكرم وجه العظيم، بل بالعدل تحكم لقريبك” (لاويين 19: 15).
“طوبى للرجل الذي يتقي الرب. ويهوى وصاياه جدا. تكون ذريته في الارض مقتدرة. وجيل المستقيمين مبارك. في بيته يكون المال والغنى. وبره يدوم للابد. اشرق النور في الظلمة للمستقيمين. هو رؤوف رحيم بار. طوبى للرجل الذي يراف ويقرض. ويدبر بالحق اموره. لأنه لن يتزعزع للابد. وذكر البار يكون للابد (…) وزع واعطى المساكين. فبره يدوم للابد. وقوته تزداد مجدا. والشرير يرى فيغضب. يصرف اسنانه ويذوب. وبغية الاشرار في زوال” (مز 112).
العدالة في العهد القديم هي اساس الحياة الاجتماعية، وهي الفضيلة التي تعزز النظام الايجابي والبناء والمفيد لعلاقات الناس مع بعضهم البعض ومع الله: ان كلمة “بار” تعني “صالح”، “مقدس”، “كامل”.
وفي العهد الجديد:
“ايها السادة عاملوا عبيدكم بالعدل والمساواة، عالمين ان لكم انتم ايضا سيدا في السماء” (كول 4: 1).
نتذكر اية لوقا، التي يشار فيها الى والدي يوحنا المعمدان على انهما “باران امام الله” (1: 6): كان اعظم تسبيح يمكن القيام به.
يؤكد الانجيلي متى ان يوسف كان “رجلا بارا” (متى 1: 19) لانه كان كاملا في جميع العلاقات مع الله ومع الاخرين.
هناك كثير من الناس في الكتاب المقدس وفي تاريخ المسيحية امتازوا بالصلاح والبر، ومنهم يوسف زوج مريم، الذي يبين لنا ان العدالة تكمن في اتمام وتنفيذ ارادة الله. فالبار هو الذي يريد العدل ويحترم القوانين، ويحترم ممتلكات الاخرين، ويصلح الخطأ الذي وقع فيه، وهو الذي لا يتسامح مع الظلم وعدم المساواة ويتعهد لتحقيق العدالة. البار هو الذي لا يلوم البريء، هو الذي يصغي الى كلمة الله ويحاول ان يعيشها بثقة من خلال تطبيقها في الواقع.
يصر العهد الجديد كثيرا على العدالة الاعظم: “ما لم يكن برك اعظم من الكتبة والفريسيين، فلن تدخل ملكوت السماوات” (متى 20: 5). هو العدل الذي يعبر عنه بالمحبة: “من احب اخاه فقد اتم الناموس” (رو 13: 8). انها عدالة يتم التعبير عنها في المغفرة: “احبوا اعداءكم، صلوا من اجل الذين يضطهدونكم” (مت 5: 44). هذا هو البناء البشري الالهي الرائع للعدالة، الذي نستلهمه من كلمات يسوع.
العدل في تعليم الكنيسة
العدل هو الفضيلة الاخلاقية، التي قوامها ارادة ثابتة وراسخة، لإعطاء الله والقريب ما يحق لهما. والعدل تجاه الله يدعى “فضيلة العبادة”. وهو تجاه البشر، يهيئ لاحترام حقوق كل واحد، وجعل العلائق البشرية في انسجام يعزز الانصاف بالنسبة الى الاشخاص والخير العام. الانسان البار، الوارد ذكره مرارا في الكتب المقدسة، يتميز باستقامة طبيعية في الافكار، وسلوك قويم تجاه القريب.
هذا كله رائع، ولكن كيف يمكن وضعه موضع التنفيذ؟ هل نعرف كيف نتصرف وفق العدالة؟ في بعض الاحيان يمكننا تطبيق القانون بشكل حرفي، كما يقول البابا فرنسيس، ولكن مع ذلك نكون غير عادلين. وقبله قال القديس يوحنا بولس الثاني: “نحن جميعًا، بطريقة ما، ندرك أنه في هذا العالم العابر، لا يمكن تحقيق العدالة الكاملة”، ولكن يمكننا أن نبذل قصارى جهدنا.
انواع العدل
انطلاقا من العلاقات بين الاشخاص والعلاقات الاجتماعية والسياسية، هناك ثلاثة انواع من العدل: التبادلي، الذي يؤمن حق الفرد تجاه الفرد وحق الجماعات تجاه الجماعات في الشؤون الحقوقية. التوزيعي، الذي يضمن ما يحق للفرد من المجموعة الاجتماعية. القانوني، الذي يؤكد واجبات الفرد تجاه المجتمع والدولة. اليوم، نجد العدالة الاجتماعية وقد اخذت حيزا كبيرا من الاهمية. ومعها يتوافق كل ما يقتضيه الخير العام. ويتوجب على البشرية، كونها مجتمعا متضامنا، ان توجه عنايتها لخير جميع الناس ولاسيما المظلومين منهم.
كيف لي ان اعيش هذه الفضيلة؟
يبدو لي من المفيد هنا ان استشهد بالكاردينال مارتيني في تأملاته عن العدالة وبإيجاز:
اولا، في انجيل لوقا، يقول يسوع: “اعط لقيصر ما لقيصر ولله ما لله” (25: 20). ماذا يعني اعطاء الله حقه؟ كيف ومتى تعطيه الحق؟
ثمة عدالة يجب ان تمارس تجاه الله. وكوننا مخلوقات فإننا ندين له بكل شيء. فالعدل هنا هو ان نقدم لله في مواقف عميقة وصحيحة، العبادة، التسبيح، المحبة، صمت القلب، الاستماع والشكر.
جرب ان تسال نفسك: في صلواتي اليومية هل اعي كم انا مدين لله؟ هل ادرك عدم عدلي عندما انساه؟ لان كل نسيان لله هو بطريقة ما، عدم عدل. في صلاتي، هل اعبده، اسبحه، اباركه، هل اعترف له بالتواضع واحبه؟ هل امنح وقتا لله خلال يومي؟
مرة اخرى، هل امنح الله الوقت في اسبوعي؟ هل اشارك في قداس الاحد كعمل عدل تجاه الله؟ لا يجب ان نحسب ذهابنا الى القداس او صلاتنا بانها متعة، او لطف نقوم به تجاه الله. فنحن مدينون له بكل شيء.
علينا ان نتذكر ان كل هذا يتم التعبير عنه في الصلاة اليومية، في التأمل الدؤوب، في الصمت وفي قراءة الكتاب المقدس لتقديم المجد والتسبيح لله.
ثانيا، بالعودة الى الجزء الاول من اية لوقا لنسال انفسنا: ما معنى ان نعطي جارنا حقه؟ ما هي المعوقات، الوسائل والاسلوب؟ امامنا مجال شاسع، لان العدل بين الناس يغطي جميع علاقاتنا الاجتماعية. من هو الجار الذي انا ملزم باحترام حقوقه؟ لمن ادين بالعدل؟
لابد من تسليط الضوء على اربع دوائر متحدة المركز، بدءا من الاضيق:
والداي اللذين ادين لهم بالشرف والاحترام والطاعة. هم افراد الاسرة الذين ادين لهم بالاخوة والمودة والحب. هم اولئك الذين تربطني بهم علاقات لقاء ومحادثة وصداقة. بالنسبة لهذه الدائرة لا يمكن الحديث عن العدالة بالمعنى الدقيق للكلمة، لإنها ليست عدالة تبادلية، بل هي استجابة محبة واخوة.
في الحياة الاجتماعية القريب هو كل من تربطني به علاقة تبادل: عقد، عمل، تجارة، جمعية، بيع وشراء، افتراضات متبادلة. كيف اقيم العدل في هذه العلاقات؟
الدائرة الاكبر هي دائرة العدالة في الحياة السياسية. هذه العدالة تخص اؤلئك الذين لديهم مسؤولية ادارية، اجتماعية وسياسية: منهم العاملون في هيئات خاصة وعامة، والمسؤولون عن الواقع الاجتماعي وجميع السياسيين. من الانحرافات الدراماتيكية التي ظهرت وتظهر، ندرك مدى اهمية مجال العدالة هذا وكيف تكسر الانحرافات نسيج المجتمع، نسيج الثقة الاساسي في العيش المشترك.
هناك دائرة رابعة، تخص القريب الذي لدي مسؤولية تجاهه رغم بعده، ومع ذلك هي مسؤولية حقيقية: دول العالم الثالث، على سبيل المثال، التي يجب على دول الشمال ان تنصفها. ثم كل واحد منا، كل مجموعة اجتماعية، لديه مسؤولية تجاه البيئة، لان المشكلة تؤثر على الاجيال الحالية، ولكن ايضا على الاجيال المستقبلية التي نحن مسؤولون عنها.
من هنا، فمجال مسؤوليتنا واسع: انه ينتقل من الاماكن التي يسهل فيها تحديد العدالة بمعايير دقيقة، الى الاماكن التي تجعلنا فيها العدالة مسؤولين عن الاخرين، تجاه البشرية جمعاء، عن مستقبل البشرية.
المصادر
– التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، المكتبة البولسية، جونيه 1999.
– مجلس اساقفة كنيسة المانيا، المسيحية في اخلاقياتها، نقله الى العربية كيرلس سليم بسترس، المكتبة البولسية، جونيه 1999.
– ازاد شابا، الفضائل المسيحية، مجلة نجم المشرق، مطبعة الديوان، بغداد، السنة 17 (العدد 68) 2011.
– Carlo Maria Martini, Le Virtù per dare il meglio di sè, Dialogo, Milano 2010.