العذراء مريم في تراث الكنيسة الكلدانية صورة جميلة مختلفة
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
في اللاهوت المريمي المشرقي (الكلداني والأشوري)، نجد تراثاً غنيّاً عن مريم العذراء، يختلف تماما عن الصورة التقليدية والشعبية التي اعتاد عليها مؤمنونا. تخصص الليتورجيا الكلدانية للعذراء ترتيلة خاصة في صلاة المساء( تراتيل ما قبل وما بعد) وصلاة الصباح وتراتيل الشهداء ومجموعة التراتيل التي تدعى شوحلافي- ܫܘܚܠܦܐ ̤ ويوم الاربعاء مخصص لها وتتضمن الحان الجمهور( ܩܠܐ ܕܓܘܐ) أبياتا لمريم، كما ان لها اعياداً مهمة، كعيد البشارة والتهنئة والانتقال.كذلك يوصف مار افرام(+373) بشاعر العذراء.
نجد صورة هادئة لمريم العذراء وجميلة تتماشى مع الخطّ المعتدل لما يحكيه الإنجيل عن دورها ومجدها. ولا نجد مثالا اجمل من ايمان مريم في التمسك بالله والتوكل عليه أمام عواصف الحياة. لنصغِ إليها بانتباه ونتعلم منها كيف نؤمن ونتقدس.
قلما نجد صوراً أو أيقونات لمريم العذراء في كنيسة المشرق، انما هناك بعض منمنمات (رسوم صغيرة) في المخطوطات، كما لا نجد عباداتٍ شعبية. أغلب هذه الممارسات آتية من الغرب المسيحي.
الفكر المريمي المشرقي واقعي بسيط، وخالِ من المغالاة. والالقاب التي نجدها عند افرام ونرساي وفي الليتورجيا هي: الام، البتول، الخادمة، السماء الثانية، ابنة داود، حواء الثانية و القديسة الطوباوية. يقول نرساي: “يجب ان يُعطى القديسة مريم اسم لائق: امٌ انجلت بواسطتها صورة الألوهية في يسوع” (بورجيا 83 ص 34 وجه).
تمثل مريم في الفكر المشرقي الكلداني والآشوري، الطريق الذي يقود الى المسيح. فهي مثال الخلاص بكونها اماً، حلَّ عليها الروح القدس كما كان يحلّ على الانبياء فملأها نعماً. مريم مؤمنة واعية (طالع الحوار بينها وبين الملاك، لوقا 1/ 26-38)، ومدبرة حكيمة، وخادمة للمحبة عكست وجه الله محب البشر . لقد سكب الله على مريم عطاياه مما جعلها قديسة عظيمة: “تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي(لوقا 1/ 46 -47).
ينظر المؤمنون الشرقيون عامة الى وجه مريم باتجاه وجه ابنها يسوع في نظرة روحية شاملة هي عربون السعادة المنتظرة. مريم تضمّ الطفل يسوع الى صدرها بمشاعر الحبّ والحنان الوالدي (الامومة) وروحانية الايمان، وتقدمه للناس بكلماتها وحركاتها. هاهي ذي تقول بحماسة للمجوس” انجبتُ ابناً هو ابن الله، اذهبوا وبشروا به” (بيك، مار افرام، سوغيثا 4/ 46).
انها تتلقى حنان ابنها، وتجسده في طبيعتها البشرية “الكلمة صار جسدا وحل بيننا”(يوحنا1/ 14). في الحقيقة عندما نرى المسيح في أحضان أمه، انما نؤمن انه في حضن الأب.
و لارتباطها بانسانيتنا تترك اثراَ في انفسنا، و هي مثال يحتذي به كل مسيحي. من المؤكد أنه لا يوجد مسيحي واحد على الأرض يعتقد أنها “إلاهة”. يدعوها مار افرام حواء جديدة: “أنتَ ووالدتُكَ فقط تفوقان الجميع جمالاً، فلا عيب فيك، يارب، ولا دنس في والدتك” (ترانيم نصيبينية 27/ 8). واضح أن “بمريم أشرق النور وبدد الظلام الذي ادخلته حواءُ وشوَّه البشريّة” (الكنيسة 37/3).والنساء ” يشكرن أمهن على المجد المعطى لهن بواسطتها ” (الميلاد 22/2). وكان القديس كيرلس الأورشليمي (313 – 386) قد أشار الى هذه المقارنة في كتاب “التعليم المسيحي فصل12 “
يجب أن نفهم دورها وعظمتها من خلال علاقتها بابنها وليس خارجا عنه، وهذا ما ساعدها على تجاوز صعوبات الحياة البشرية والتحديات المأساوية التي واجهها ابنها. يتأسس إيمانها ورجاؤها على ثقتها المطلقة بالله وتسليم ذاتها كاملة له ” اني خادمة الرب، فليكن لي كما قلت” (لوقا 1/ 38). هذا ما أجابت به الملاك. أمام مريم نشعر بقوة حبها وحرية قلبها، وسلام ضميرها، لذا تُعطى الطوبى “تطوبني جميع الأجيال” (لوقا 1/ 48)
العروس(مريم) عند القديس افرام تظهر جمال العريس الذي ينعكس على وجهها. يقول افرام: ” كانت عروسَك أيضاً مع كل النفوس الطاهرة. أنتَ، يا من أنتَ جمالُ أُمِّك، قد زَينَّتَها بِنفسِك بكلِّ شيءٍ” (مار أفرام، الميلاد 11/2)).
بمريم يبدا تدبير الخلاص (ܡܕܒܪܢܘܬܐ)̤ ولكي يتحقق لنا وفينا علينا ان نسير على خطاها، فيتم فينا ما تمّ فيها، وينطبع وجهها على وجهنا.
ان قول يسوع لمريم وهو على الصليب ان هذا ابنك (التلميذ الحبيب يوحنا) للتلميذ – يوحنا الحبيب- هذه أمك” (يوحنا 19/ 20-27)، انما، يشير من خلاله الى كل واحد منّا لترسيخ علاقة متبادلة
- مريم: العلاقة الوالدية، الاهتمام والرعاية والحماية. حضورها يُطمئننا ويعزّينا ويساعدنا على رفع نظرنا الى الله “معطي الحياة”، للشكر والامتنان تقول ترتيلة رمش الاثنين: دعاء العذراء مريم، ام يسوع الفادي، سور حصين لنا يحمينا ليل نهار.
- التلميذ: العلاقة البنوية الإصغاء والاقتداء. تقول مريم للخدم “مهما قال لكم فافعلوه” (يوحنا 2/ 5) ليحقق بواسطتنا خيرا حقيقيا وعميقا. تعلمنا مريم أن نترك انفسنا للروح القدس ليقودنا ونستقبل كلمات المسيح (الإنجيل) في حياتنا.
مريم حبلت بيسوع في احشائها بقدرة الروح القدس، وانجبته وقدمته للعالم، ونحن نتناوله من خلال القربان المقدس في احشائنا، لنكون بدورنا قربانا وخبزا مكسورا لاخوتنا. وكما صوره الروح القدس في أحشاء مريم، يصوّره إن اردنا، في داخلنا ليكتمل خلاصنا.
علينا أن نبحث عن أية طريقة يمكن أن نرفع فكرنا الى هذا السمو الالهي الأبدي. وكيف يمكننا كشف المسيح للاخرين في القول والحركات مثل مريم.