الاحد الثاني من البشارة: قدرة الله وسيادته من أجل حماية شعبه
الأحد الثاني من البشارة
قدرة الله وسيادته من أجل حماية شعبه
تدعونا قراءات الأحد الثاني من زمن البشارة، الى الثقة في حماية الله وعنايته وتفانيه في احترام عهده. وتعزز موضوع سلطة الله على كل خليقة، وهو ما نجده في جميع انحاء الكتاب المقدس: فهو يجعل الخرس يتكلمون (خروج 4/ 11)، ويؤكد أن كل شيء مستطاع عنده (متى 19/ 26).
القراءة الاولى (سفر العدد 22/ 20-35): نواجه هنا قصة تتحدى فهمنا للواقع وتصورنا لتواصل الله داخل النظام المخلوق. في القصة شخصية محورية هي شخصية العراف بلعام بن بعور الذي جنده بالآق ملك موآب والتي تتمتع بسحر خاص. يواجه بلعام قصة إسرائيل في طريقه إلى أرض الموعد، في سهول موآب. الإسرائيليون الأشداء في القتال يزرعون الذعر بين السكان المحليين خلال رحلتهم. قرر الموآبيون عدم اللجوء إلى الأسلحة بل إلى السحر. يطلب ملكهم بالآق من بلعام أن يوقف هؤلاء الغزاة بلعناته مقابل عطايا. ولكن هناك مفاجأة: الساحر بلعام بكل مكره، غير قادر على لعن إسرائيل. لا بل إنه ينطق بالبركات فقط، ومن المفارقة أنه أصبح “نبيًا” لإسرائيل، رغما عنه ورغم أمر مرسله ملك موآب. بعد أن جاء بلعام لرؤية معسكر اليهود من التلال المجاورة، كرر البركة التي أوحى بها الله ثلاث مرات متتالية بدلاً من اللعنة التي اقترحها بالآق. والغريب أن الله استخدم لعبة القوى المعادية للحصول على خلاص شعبه. ويصبح بلعام أداة في يد الله لتأكيد ثبات الوعد. وبينما كان بلعام راكبًا على الأتان (أنثى الحمار) نحو أرض موآب، ظهر له ملاك الرب وبيده سيف. ويبدو أن الوحيد الذي يرى الملاك هي الأتان، ولذلك تنحرف. يهاجم بلعام الغاضب الأتان التي تبدأ بالتحدث والشكوى من المعاملة التي تلقتها من سيدها. في الوقت نفسه، سمح الله أيضًا لبلعام أن يرى الملاك: ففهم النبي، وتاب، وسأل إذا كان عليه أن يعود. لكن الملاك يأمره بالاستمرار، قائلاً له أن يفعل مشيئة الرب عندما يكون مع ملك موآب. سيذهب بلعام ويلتقي بالملك، لكنه لن يقبل اقتراحه بخيانة إسرائيل، انما سيبارك اسرائيل بدلاً من ذلك. تقدم قصة بلعام لحياتنا المسيحية ولكل للمسيحيين اليوم، دروسًا بما في ذلك: أهمية طاعة توجيهات الله، والوعي الروحي، والتمييز، والمصداقية في سيادة الله. وهي تشجعنا على موآءمة رغباتنا مع إرادة الله فهو يحافظ على وعوده حتى في مواجهة المقاومة. يكشف النص عن سيادة الله وسيطرته على القوى التي تبدو معادية، وقدرته على تحويل اللعنات إلى بركات. ومن ثم فان وضع طاعة الله هي فوق المغريات الدنيوية. فعلينا أولا أن نطلب مشيئته ونضع طاعته فوق أي رغبة أو طموح زمني، فالتواضع والطاعة لله يجعلان حضوره ملموسا.
القراءة الثانية (كولوسي 4/ 2-18): في هذا السياق يظهر بولس هنا، عظمة المسيح كصورة الله الخالق، والذي يمسك بيده جميع الخلائق وهو الذي يدعونا الى المصالحة مع الله. ففي الآية الاولى من هذا الفصل، يطلب بولس من الأسياد العدل والمساواة، لأن هناك سيدا في السماء يرى ما يعمل على الأرض. ويعلن بولس البشارة اذ يكتب هذه الرسالة من السجن (رومة)، الى مسيحيي كولوسي (من أصل وثني) في آسيا الصغرى (تركيا) ويهتم بتقدم هذه البشارة، طالبا من تلاميذه أن يصلوا لأجله ليواصل حمل البشارة وهو مقيد. فقد سبق وأن طلب يسوع نفسه من تلاميذه المواظبة على الصلاة، ولا سيما في وقت الشدة والتجربة. ما الذي دعا بولس الى كتابة هذه الرسالة، خاصة وأنه لم يبشر كولوسي ولم يزرها؟ فمن قام بذلك هو أبفراس، ابن كولوسي، الذي اهتدى على يد بولس في أفسس، هو الذي تكفل بحمل الانجيل الى كولوسي. ولأن أبفراس يعتبر بولس هو الرسول الأول، فقد ذهب الى رومة ليطلب منه أن يوجه كلاما الى أبناء كولوسي، بعد أن نقل اليه أخبارا عن امتزاج ايمان جماعة كولوسي بتعاليم مستقاة من العالم اليهودي وممارساته الفريسية، ومن العالم الوثني الغنوصي (المعرفة الباطنية). عطفا على ذلك، ياتي رد بولس على ذاك التعليم الضال، والبدعة والهرطقة التي دخلت في هذه الكنيسة، موصيا المسيحيين بخلع الانسان القديم ولبس الانسان الجديد من خلال العماد، وداعيا اياهم بالمواظبة على الصلاة، والحكمة في معاملة الذين في خارج الكنيسة (الوثنيين الذين لا يفهمون التعليم ولا الممارسة المسيحية)، والكلام اللطيف المليح (المصلح أو المطعم بالملح)، والتمسك بسلوك يليق بدعوتهم على مستوى العلاقات بين أبناء العائلة الواحدة، بين أعضاء المجتمع، ولا سيما مع غير المؤمنين.
القراءة الثالثة (لوقا 1/ 26-56): البشارة بولادة مخلص ابن الله وعمل الروح يكون علامة هذه البنوة البشرية. في انجيل اليوم نميز ثلاثة أقسام؛ البشارة، مريم واليصابات، ونشيد مريم. من المهم أن نفهم أن ما سمعناه، ليس حدثا حرفيا قبل أشهر من ولادة يسوع. انما هو تعبير عن الايمان المسيحي، ايمان المسيحيين الأوائل بعد الفصح. هذا الايمان الذي نما وكبر شيئا فشيئا بين الاخوة الذين كانوا يعيشون معا ويبشرون اليهود والأمم. بعد بشارة زكريا في الأحد الماضي بميلاد يوحنا زوجته العاقر والمسنة، تأتي اليوم بشارة مريم بمولد ابن الله. هكذا ننتقل من عدم الكمال (الشهر السادس) الى الكمال بالبشارة بقدوم المخلص. ومن اليهودية (بعاصمتها أورشليم) الى الجليل (بعاصمتها الجديدة الناصرة) التي لم يعرفها العهد القديم واحتقرها معاصرو يسوع (يو 1/ 46)، ومع ذلك سماها لوقا “مدينة”، وهي صارت كبيرة بسبب يسوع. يظهر لوقا تفوق ميلاد يسوع على ميلاد يوحنا، وتفوق مريم في قبول بشارتها وطاعتها على زكريا. في سلام الملاك لمريم يقول: “افرحي .. لا تخافي .. نعمة ..”، ما يعني أن الانجيل منذ البداية هو فرح، بشارة، وتحرير من الخوف. والفرح ليس لأن طفلا يولد، لكن لأن تاريخ العالم أخذ منعطفا، طريقا جديدا، وهذا سيكون للعالم كله. هكذا كل طفل يولد يصبح علامة استفهام بالنسبة لأبيه وأمه. وهكذا كان يسوع لمريم. يسوع سلك طريقه الخاص، ومريم عرفت يوما بعد آخر من هو، “طوبى للتي آمنت …”. وعندما رأت أن المعارضة كانت تزداد حول ابنها، بقيت هي أمة الرب، خادمة الرب كل أيام حياتها. هذا ينطبق علينا، على حياتنا، خاصة على حياة الأب والأم، وكيفية تعاملهم مع أبنائهم، يجب أن يكون لهم ايمان واستعداد أن يفسحوا المجال لأولادهم، مثلما فعلت مريم، لكي يكتشفوا طريقهم ويسيروا فيها. فالأبناء ليسوا ملكا لهم، بل ملك الله. في القسم الثاني تزور مريم أليصابات: يعترف يوحنا (في بطن أمه) بالمسيح (عندما ابتهج الطفل..). كلمة الابتهاج تأتي في المزامير 90 مرة، كي تبين فرح الانسان بحضور الله. والطفل يبتهج بقوة الروح القدس. هكذ يريد لوقا أن يقول: أن الروح القدس وحده يساعد الانسان حتى يعرف يسوع ابنا لله. في القسم الثالث: نشيد مريم، هناك شكوى نبوية من كل انسان يظلم الصغير: المتكبرين وسلاطين الأرض والأنانيين يسقطون من كراسيهم، والصغار المرذولين يرفعون. هذا النشيد ينتقدنا، ينتقد أسلوب حياتنا ويدعونا التوبة والعودة الى القيم المسيحية. يظهر الكتاب المقدس أن قوة الله تتجلى في الناس الضعفاء والمرذولين والمساكين الذين ينتظرون كل شيء من الله. بينما الاغنياء وأصحاب السلطة، يتكبرون ويتبجحون ولا يريدون الله، ولا الانسان صديقا. اذن، لوقا يحكي لنا بشارة مريم، وهي حائرة، لكن مؤمنة ومستعدة للطاعة والتعاون مع ارادة الله، ونتعلم نحن من مريم، أن نتجاوب مع كلمة الله، وأن نعمل ارادته ونعيش حسب وصاياه، ونحاول أن نخدم الناس ونصلح من وضعهم في الفكر والاقتصاد، ونسخر قابلياتنا لخلاص الانسان وبناء الانسانية والحضارة.
بايجاز: يمكننا دائمًا الاستماع إلى الله في صمت الحياة واضطرابها وحتى في مفاجآتها. يمكننا أن نتذكر أن طريق الطاعة، رغم أنه ليس دائمًا الأسهل، لكنه دائمًا الأكثر حكمة. في رحلة الإيمان هذه، نحن ندرك ونحترم باستمرار محبة الله لشعبه، هذا الحب الذي يثبت مرارًا وتكرارًا أنه يتجاوز الادراك البشري لنقل رسالته. فلنسع جاهدين للاستماع والتعلم والعيش في طاعة لإلهنا القادر والمهتم والمتواصل. ولننشد مع مريم-نموذج الايمان الحقيقي، ومثال كل مسيحي: “تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي”.
ترتيلة طقسية من صلاة الرمش لعشية الأحد الثاني للبشارة: “كشف لنا، في ملء الزمان، السر المخفي. قد أتى وحيد الآب، واتخذ شكل العبد. أخبرنا وكشف، لنا الايمان الكامل، أي سر الثالوث المجيد”. (ترجمة الترتيلة/ الاب بول ربان).